بلد أبو صلاح| عبد الصبور.. "حلاج" الشعر وشهيد الكلمة
صلاح عبدالصبور
"أحمل بين جوانحي شهوة لإصلاح العالم، ولا أملك أداة للإصلاح سوى الكلمة"، ربما تعكس تلك الكلمات ما كتبه القدر على جبين صاحبه، فاستسلم برقته الآسرة إلى تلك الشهوة المجنونة التي أودت بأعتى المبشرين بعالم أفضل من قبله ليصبحوا أساطير يعزف صلاح عبد الصبور على أوتارهم بأداته الوحيدة، الكلمة.
"سأحكي حكمتي للناس، للأصحاب، للتاريخ إن أذنت مسامعه الجليلة لي"، رحل عن الزقازيق حيث أبصرت عيناه النور في 1931 نازحًا إلى العاصمة مُبشرًا بحكمته فسرعان ما وجد أنصارًا من زملاء دراسته بقسم اللغة العربية في كلية الآداب ليكوّن جماعة "الأمناء"، ويتبعها بـ"الجمعية الأدبية" فيتركون بصمتهم على حركتي الأدب والنقد وينطلق منها عبد الصبور لأول دواوينه الشعرية "الناس في بلادي".
لم يقتنع بالشعر وحده فعكف يفتش عن ذروة تأثير الكلمة في النفوس ليجد ضالته في المسرح، فكانت عودة الروح لجسد المسرحية الشعرية بعد أن هجرها الشعراء بعد آخر تجارب أحمد شوقي وعزيز أباظة، لتكتمل التجربة على يديه في كيان محكم البنيان.
"أبأيديكم؟.. بل بالكلمات" يصيح بها الجمع على خشبة المسرح معلنين مقتل الحلاج، بطل أولى روائع عبد الصبور المسرحية "مأساة الحلاج"، وإحدى نماذج هوايته المفضلة في العزف على أوتار شهداء إصلاح العالم، واسترجاعهم من صفحات التاريخ الصوفي، والشعبي كأبو زيد الهلالي في قصيدته "مقتل زهران"، والفرعوني كما في مسرحية "الأميرة تنتظر"، بل والعالمي باستدعاء دون كيشوت في السطور الأولى من مسرحية "ليلى والمجنون".
"يا أهل مدينتنا انفجروا أو موتوا!" هكذا أراد وأصر وصاح مسرح عبد الصبور في القارئ والمشاهد طوال مشروعه المسرحي بنبرة سياسية ناقدة بسطت الفكر والفلسفة للبسطاء بمزجها مع الموروث الشعبي وتجريدها من استقطاب التيارات السياسية حينها ليتربع على عرش المسرح الشعري بخمس مسرحيات كان آخرها "بعد أن يموت الملك"، بالإضافة لستة دواوين شعرية، وتسعة كتب حملت إسهاماته النقدية.
على نقيض تجاربه المسرحية لم ينج عبد الصبور من الاستقطاب السياسي الذي كان على أشده عام 1981 بشأن التطبيع مع الكيان الصهيوني ليواجه حينها دعوة أنيس منصور لمشاركة الكيان الصهيوني في معرض القاهرة الدولي للكتاب مطالبًا بقرار جمهوري من الرئيس السادات وهو ما رفضه عبد الصبور بشدة كرئيس الهيئة العامة للكتاب مؤكدًا موقفه بتقديم استقالته من رئاسة الهيئة ولكنها لم تُقبل حتى وقع في إحدى المشادات الكلامية مع أنيس منصور أصيب على إثرها بنوبة قلبية حادة أودت بحياته.. "أبأيديكم؟.. بل بالكلمات".