إن ظواهر التكفير والتفجير والحرق المميزة للموجة الثالثة للإرهاب ضد الشعوب والجيوش العربية، والتى تستخدمها حروب الجيل الرابع التى أطلقتها قوى الإمبريالية العالمية، لا مرجعية لها سوى عقول مختلة استندت إلى أقوال شاذة مقتطعة من سياقها وبلا سند تاريخى صحيح، عقول مكّنت نفسها لتكون دمى «ماريونيت» يُحركها المستعمر العالمى فى حرب جديدة على الشرق، ولا علاقة لها بروح الإسلام ونصوصه الصحيحة ومقاصده الكلية التى عُرفت من الدين بالضرورة. إنها عقول استقت دينها من «قاع التراث» أو من «مرويات ضعيفة» أو من «أقوال فقهاء» ربما تصلح لعصرها، لكنها لا تصلح لعصرنا.
بدأت الكلمة الإلهية فى الإسلام بـ(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ)، وانتهت بـ(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً)؛ فالدين اكتمل بإعلان إلهى، وهذه هى كلمته الأخيرة، وهنا انغلقت «دائرة الكلمات المقدسة». إذن كل ما جاء بعد ذلك فى التراث ليس «دينا»، بل هو مجرد اجتهادات بشرية فى فهم الدين واستنباط الأحكام، يصيب فيها مَنْ يصيب ويخطئ فيها مَنْ يخطئ، ولا يحمل أحد صكاً إلهياً، وليس لبشر العصمة سوى الرسول المعصوم فى أمر الدين بالوحى؛ فالقرآن الكريم لا توجد فيه آية واحدة تعين شخصاً سوى الرسول، صلى الله عليه وسلم، للحديث باسم الحقيقة الدينية، والرسول لم يرد عنه فى أى حديث متواتر تحديد شخص بعينه ليحمل الرسالة بعده، بل القرآن يذم طاعة السادة والكبراء دون برهان محكم وحاسم لمجرد أنهم سادة وكبراء (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا).
إن إحدى أهم مميزات الإسلام أنه نزع القداسة الإلهية عن البشر مهما بلغت مرتبة هذا البشر، على خلاف أديان أخرى؛ وهذه هى رسالة التوحيد الخالص، ورسالة تحرير الإيمان من الشرك بالله؛ فعبادة الله الواحد هى غاية الإسلام النهائية، والنقطة التى يلتقى عندها كل شىء فى الكون. وليس التوحيد فقط هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء الحسنى، وإنما أيضاً توحيد المرجعية الدينية؛ فالله وحده هو المقدس، ومعرفة مقاصده تكون من خلال كلمته التى اكتملت يوم أن أعلن ذلك، ومعرفة معانى هذه الكلمة يكون من خلال رسوله الكريم المكلف بإيصال الرسالة وبيانها للناس (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وكلمات الرسول نفسه، صلى الله عليه وسلم، هى أحاديثه التى ثبتت صحة نسبتها إليه ثبوتاً يقينياً بلا خلاف بين علماء الحديث، أما ما سوى ذلك فهى مجرد أحاديث موضوعة كذباً عليه، أو ضعيفة، أو ظنية الثبوت.
فلا يعقل أن نأخذ منها ديناً؛ لأن الدين يُبنى على اليقين ولا يُبنى على الظن والاحتمال، وليس كل ما هو منسوب إلى النبى صحيح النسبة إليه، بل منه الصحيح بدرجاته، والحسن بدرجاته، والضعيف، والمرسل، والمنقطع، والموقوف، والمعلق، والمدلس، والمعنن، والمؤنن، والمقلوب، والمتروك، والمنكر، والمعلل، والمدرج، والمضطرب، والمصحف، والشاذ، والموضوع كذباً، إلخ. (يمكن الرجوع لكتابنا: مفاتيح علوم الحديث وطرق تخريجه).
وهنا نجد أن من أهم مهام تجديد الخطاب الدينى وجوب تحرى وفحص الأسانيد والمتون حتى نتأكد: هل فعلاً قال النبى ذلك، أم لا؟ وهذا ما قام به علماء الحديث القدماء على قدر وسعهم، أما المحدثون فلا يزالون عالة عليهم ولم يكملوا جهودهم فى «جمع» ما تفرق من الأحاديث الصحيحة فى بطون كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وبيان درجة صحتها، والتمييز بين الأحاديث يقينية الثبوت والأحاديث ظنية الثبوت والموضوعة، وتصنيف الأحاديث المتواترة والمشهورة والآحاد وعلاقتها باستنباط الأحكام. هذا جهد يحتاج مؤسسات علمية تقوم بواجبها تجاه سنة النبى، صلى الله عليه وسلم، وفق رؤية ومنهج علمى، وليس مؤسسات تحصر مهمتها فى أغراض يعرفها الجميع!
والصحابة الكرام دون خلع صفات القداسة الإلهية عليهم «رجال لا يُضاهون» لصنائعهم العظيمة التى أدت إلى نشوء أمة سادت العالم، وتغلبت على غيرها من الأمم، فأين مسلمو عصور التشرذم والهوان منهم؟! وهؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يحتلون فى عقولنا وقلوبنا مكانة عالية دون تأليه ودون ادعاء عصمتهم. أما اختلافاتهم أحياناً فيما بين بعضهم بعضاً، وأحياناً مع رسولنا الكريم فى مسائل دنيوية (صلح الحديبية نموذجاً) فما هى إلا اجتهادات بشرية تصيب وتخطئ، ولها كل التقدير؛ فالرسول ربّاهم على حرية الرأى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ)، والقرآن امتدحهم لأنهم يتداولون الأمر بينهم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، فأين المتعصبون الجامدون مدعو امتلاك الحقيقة المطلقة منهم؟!
ومعنى هذا أنه ليس لأحد منهم «الكلمة النهائية» إلا إذا كان فى موقع اتخاذ القرار الدنيوى حسب تسلسل سلطة اتخاذ وصناعة القرار السياسى فى الدولة، مثلما حدث عند تباين الرأى بين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما عندما كان الأول خليفة للمسلمين حول الموقف من الخارجين على نظام الدولة أو الدين، فكان القرار للخليفة أو الرئيس، لأنه حامل المسئولية فى هذه اللحظة التاريخية، وهو المسئول الأول عن صيانة الدولة وما تقوم عليه من أركان.
وأبوبكر الصديق نفسه بعظمته البشرية الاستثنائية فى التاريخ الإنسانى، لم يدعِ العصمة أو القداسة الإلهية، بل أكد فى خطاب توليه الخلافة بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه يصيب ويخطئ، حيث حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإنى وُليت أمركم، ولست بخيركم، ألا إن أقواكم عندى الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإنَّ أضعفكم عندى القوىّ، حتى آخذ منه الحق،َّ أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أنا أحسنت فأعينونى، وإن زغت فقوّمونى، أقول قولى هذا، وأستغفر الله لى ولكم». رواه مالك فى الموطأ وقال: «لا يكون أحد إماماً أبداً إلا على هذا الشرط». وفى رواية أخرى جاءت عند البزار فى مسنده، قَالَ: «إِنِّى وُلِّيتُكُمْ وَلَسْتُ مِنْ أَخْيَرِكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَإِنْ أَصَبْتُ فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَقَوِّمُونِى، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْصَمُ بِالْوَحْىِ». إذن، المعصوم فى أمر الدين بالوحى فقط هو النبى، وهذه عصمة ضرورية لأنها تتعلق بتبليغ الرسالة الإلهية.
ولم تكن حالة أبى بكر حالة وحيدة، بل كانت حالة عامة بين الصحابة العظام، هل يوجد أحد لا يعلم قولة عمر الشهيرة التى أوردها ابن كثير فى «مسند أمير المؤمنين أبى حفص عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وأقواله على أبواب العلم»؟ فقد روى الحافظ أبويعلى بسند جيّد الإسناد أن عمر بن الخطاب ركب منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا إِكْثَارُكُمْ فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ، إِنَّمَا الصَّدَاقُ بَيْنَهُمْ أَرْبَعمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الإِكْثَارُ فِى ذَلِكَ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ مَكْرُمَةً لَمْ تَسْبِقُوهُمْ إِلَيْهَا، فَلا أَعْرِفَنَّ مَا زَادَ رَجُلٌ فِى صَدَاقِ امْرَأَةٍ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَزَلَ. وَعِنْدَ الْبَيْهَقِىِّ، عَنِ الشَّعْبِىِّ، قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَلا لا تَغَالَوْا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَبْلُغُنِى عَنْ أَحَدٍ سَاقَ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ سَاقَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ سَبَقَ إِلَيْهِ إِلا جَعَلْتُ فَضْلَ ذَلِكَ فِى بَيْتِ الْمَالِ. ثُمَّ نَزَلَ فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، أَمْ قَوْلُكَ؟ قَالَ: بَلْ كِتَابُ اللَّهِ. قَالَتْ: نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفاً أَلا يَتَغَالَوا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى، يَقُولُ: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (سورة النساء آية 20)، فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثَةً. ثُمَّ رَجَعَ لِلْمِنْبَرِ فَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنِّى كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَلا تَغَالَوْا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ، أَلا فَلْيَفْعَلْ رَجُلٌ فِى مَالِهِ مَا بَدَا لَه. وفى رواية قال رضى الله عنه: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
لاحظ -أيها القارئ الكريم- هنا حرية الرأى التى كان يتمتع بها الناس وتتمتع بها المرأة، ولاحظ هنا أيضاً أن الحجية والمرجعية هنا للقرآن الكريم، فهذه المرأة متزنة العقل، حسمت النقاش بآية قرآنية محكمة الدلالة، ولاحظ سرعة استجابة عمر، رضى الله عنه، وكيف أنه لم يدع قداسة، وكيف احترم رأيها، وكيف كان شجاعاً فى الرجوع إلى الصواب القرآنى ولم يقل لها: «إنى أعلم ما لا تعلمون»! ولم يقم زوراً وبهتاناً بإعادة تأويل الآية لتتفق مع رأيه مثلما تفعل جماعات التكفير والتفجير! ولم يقم باختراع حديث أو حادثة ليبرر موقفه! فهو يعلم جيداً أن رأيه قابل للنقد، ولا يجد أى حرج فى إعلان ذلك، وهنا تكمن إحدى أهم مميزاته.
وهذا علىّ، كرم الله وجهه، قال لمن قال له: أطلحة والزبير كانا على باطل؟ قال: «يا هذا إنه ملبوس عليك؛ إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله». (المقدسى، أقاويل الثقات فى تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات، 1 / 222).
إذن، المرجعية هى مرجعية القرآن والسنة الصحيحة المنسوبة إلى الرسول على وجه اليقين لا على وجه الظن، أما أقوال الرجال فهى عرضة للصواب والخطأ، وهى قابلة للنقد، مهما وصل هؤلاء إلى مكانة عالية، فلا أحد منهم يمثل مرجعية نهائية ولا أحد منهم يملك الحقيقة المطلقة، حتى أصحاب المذاهب الأئمة الكبار لم يدعوا امتلاك الحقيقة، ورفضوا إجبار الناس على مذاهبهم.
روى أن مالكاً لما أراده الرشيد للذهاب معه إلى العراق، وأن يحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على القرآن. فقال مالك: «أما حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه لأن الصحابة رضى الله تعالى عنهم افترقوا بعد موته، صلى الله عليه وسلم، فى الأمصار فحدثوا، فعند أهل كل مصر علم». ونقل ابن الصلاح عن مالك أنه قال فى اختلاف أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «مخطئ ومصيب؛ فعليك الاجتهاد»، (المناوى: فيض القدير 1/ 210). وقال الذهبى: «وبين الأئمة اختلاف كبير فى الفروع وبعض الأصول وللقليل منهم غلطات وزلقات ومفردات منكرة».
إن الحقيقة الدينية تكمن فى المصدر الإلهى «القرآن الكريم» مفسراً بالسنة الصحيحة، حيث اكتمل الدين، ولا تمثل أقوال السابقين أو اللاحقين «ديناً»؛ فالدين أنزله الله واكتمل، وليس بحاجة أن يكمله أمير جماعة أو داعية أو فقيه، فهم يجتهدون فى الفهم والتفسير، ويصيبون ويخطئون، وليس أى منهم -مهما بلغت قامته- أفضل من النجوم (أبى بكر وعمر وعلى) الذين أكدوا فى كل الأقوال الثابتة عنهم أنهم بشر غير معصومين.
وكل ما جاء فى التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التى أعلنها القرآن، جهد بشرى قابل للمراجعة، وهو فى بعض الأحيان اجتهاد علمى فى معرفة الحقيقة، وفى أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفى كل الأحوال -سواء كانت موضوعية أم مغرضة- ليست هذه الآراء وحياً مقدساً، بل آراء قابلة للنقد العلمى وليس للسب والقذف والتجريح الذى يفعله الصغار.
لكل هذا، نحن بحاجة إلى توحيد المرجعية فى فقه جديد، وتفسير جديد، وعلم حديث جديد، وإزاحة كل «المرجعيات الوهمية» التى تكوّنت فى قاع تراثٍ صُنع لغير عصرنا، ودون هذا لن نستطيع صناعة تاريخ جديد نخرج فيه من هذه الدائرة المقيتة لكهنوت صنعه بشر بعد اكتمال الدين، وتلقفه مقلدون أصحاب عقول مغلقة ونفوس ضيقة لا تستوعب رحابة العالم ولا رحابة الدين.