لقد أسقط المصرى حاكمين وحزبين فى أقل من ثلاث سنين، وهو الآن يختار رئيساً جديداً، وأكاد أجزم أنه فى تجربة الانتخابات بعد الثورة كان المواطن يقيِّم المرشحين على أساس القدرة على «الكلام والانتماء السياسى»، ولم يكن يقيمهم على أساس القدرة على «الفعل والمهارات الشخصية». ومن هنا وقع فى اختيارات خاطئة فى كثير من تجارب الانتخابات أو الاستفتاءات التى مر بها، سواء على مستوى الدولة أو البرلمان أو المؤسسات الفرعية، اللهم إلا فيما ندر.
وأتصور أن المصرى نضج بسرعة هائلة فى الفترة القصيرة والعصيبة التى مرت بها مصر؛ وأصبح يختار الآن بمعيار القدرة على «الفعل والتنفيذ»؛ فلا يكفى أن يكون المرشح لديه برنامج يحمل أحلاماً كبيرة، بل لا بد أن يكون عنده «القدرة والوسائل» التى يمكن أن ينفذ بها هذا البرنامج.
وكيف نعرف أن لديه «القدرة على التنفيذ»؟
عن طريق «الخبرات المتراكمة» و«سابقة الأعمال»، فننظر فى سيرته الذاتية لنبحث: هل سبق أن تولى وظائف إدارية ونجح فيها؟ وهل كان على رأس مشروع ضخم واستطاع أن يحقق نتائج إيجابية؟ وهل لديه «خطط تنفيذية زمنية»؟ هل سبق أن «وعد ونفذ»؟ هل لديه قائمة مشاريع قابلة للتنفيذ أم مجرد أحلام يغازل بها المحرومين؟
إن مصر تحتاج فى هذه المرحلة إلى «مدير» يستطيع «إدارة البشر والموارد» برؤية استراتيجية واضحة، ويشد الجماهير ويقودها إلى هدف كبير من خلال مشاريع قومية تلهب مشاعرهم وتحرك ضمائرهم نحو العمل والبناء والتنمية.
إنها تحتاج «رجلاً واقعياً» يستطيع أن يعالج المشكلات وسبق له التمرس معها، لا «رجلاً مثالياً» ينفصل عن الواقع المر ويحلق فى عوالم من أضغاث أحلام، مصر تحتاج رجلاً يؤمن بالديمقراطية التشاركية، ويعمل مع فريق من أهل العلم والخبرة والرأى ولا يقطع أمراً دونهم عبر آلية دقيقة لصنع القرار، ولا يتخذ بطانة فاسدة منتفعة منافقة. مصر تحتاج «القوى الأمين» و«الحفيظ العليم» والذى يستطيع أن يخرجها من الفوضى والسنوات العجاف.
إنها كلمتك اليوم أيها المصرى الأصيل، دون أن تنخدع بشعارات ودون أن تحركك الأوهام، ودون أن يضللك معسول الوعود والكلام، وأنت الآن -أيها المصرى الأصيل- تعرف الفرق بين القدرة على «الكلام» والقدرة على «الأفعال»!
عبر سبعة آلاف سنة، لم تفتقد الأمة المصرية القدرة على «التفكير والكلام»، لكنها -وهنا المفارقة- كانت تفتقد غالباً بعد العصر الفرعونى القدرة على «الفعل والتنفيذ»، إلا فى لحظات تاريخية كبرى.
ويبدو أن الوعى الجمعى المصرى كان يختزن هذه الإرادة ليحولها إلى فعل جبار فى لحظات استثنائية كبرى، مثل: هزيمة التتار، ثورة 19، بناء السد العالى، نصر أكتوبر 73، ثورة 25 يناير - 30 يونيو. لكن هل تكفى تلك اللحظات الكبرى، أم نحن بحاجة إلى فلسفة للبناء المستمر تفهم طبيعة المخزون النفسى عند المصرى، وتعيد تكوينه، حتى يمكن استفزاز إرادته للانتقال من الثورة إلى التعمير، ومن فن الاعتراض إلى فن البناء، ومن اللحظات الاستثنائية إلى التنمية المستدامة؟ من عالم الـ«أنا أفكر» إلى عالم الـ«أنا أفعل»، من الكوجيتو الديكارتى إلى الكوجيتو السياسى، لكن ما الكوجيتو السياسى؟
هو أن يتحول الإنسان من «فرد فى قطيع» إلى «مواطن فى دولة»، من موجود من أجل ذاته أو عشيرته أو جماعته إلى موجود من أجل الوطن، لكن كيف؟ بالمشاركة الفعالة فى صنع مستقبل بلده، وفى الاختيار الدقيق لرئيس دولته، وأعضاء برلمانه، وممثليه فى الحى والنقابة والحزب.. وإذا استطاع تحقيق ذلك، فإنه يكون قد حقق «الكوجيتو السياسى»؛ فمفتاح المشاركة السياسية والعمل العام والديمقراطية وتقرير المصير هو «الانتخاب الحر»، لكنه ليس «الانتخاب الطبيعى» بلغة البيولوجيا الذى يتم دون إرادة الكائن الحى، أو بالسمع والطاعة، بل «الانتخاب السياسى» الذى يتم على أساس من الإرادة الحرة للمواطن. ومن ثم يكون الكوجيتو السياسى هو «أنا أفكر.. أنا أنتخب.. إذن أنا مواطن مصرى».
المواطن العادى صار هو صاحب الاختيار، فها هم المرشحون يقدمون له برامجهم ويعرضون مشاريعهم الإصلاحية، مناشدين إياه أن يفرز بينهم، وهذا معناه المباشر أنهم الأدوات التى تحقق حلمه، أما هو فقد صار صاحب القرار، صار الذات الفاعلة، بينما صاروا هم «الأداة».