وأخيراً تم إطلاق سراح الصحفى التركى الفذ «جان دوندار»، نائب رئيس تحرير صحيفة «جمهوريات» المعارضة يوم الجمعة الماضى، بعد أن قضى اثنين وتسعين يوماً فى سجون دولة أردوغان، التى تم تصنيفها دولياً من قبل منظمة «صحفيين بلا حدود» كواحدة من أخطر دول العالم لمزاولة العمل الصحفى. كان «دوندار» قد اتهم «بالتجسس، ونشر معلومات سرية تضر بالأمن الوطنى، ودعم منظمة إرهابية».
التقيت بدوندار لأول مرة قبل حبسه بعشرة أيام فى مدينة ستراسبورج فى فرنسا فى نوفمبر الماضى، عندما ألقى خطبة بعد تسلمه جائزة حرية الصحافة من منظمة «مراسلون بلا حدود» العالمية. بالطبع كان خبر حبسه صعباً علىّ، لأننى رأيت فيه الصدق والحرفية والإنسانية.
دورنا كصحفيين هو أن نسعى دائماً جاهدين لتحقيق حلم «حرية الصحافة»، ولكنى أيضاً أدرك تماماً أن المعنى الحقيقى لهذه العبارة ليس له وجود فى العالم، ولا حتى فى الدول الغربية التى تسوّق للديمقراطية والشفافية، أما عن «الموضوعية» فى الصحافة فهى أيضاً تعتبر كلمة مطاطة، فالتعبير الأسلم هو أهمية الالتزام بأساليب موضوعية لجمع المعلومة ونشرها. ما حدث للصحفى جان دوندار الحائز على الجوائز العالمية ليس إلا تخليص حسابات.
بدأ الصراع فى ديسمبر 2013 عندما نشر «دوندار» مقالات فضحت فساد الرئيس رجب طيب أردوغان وابنه «بلال»، حينها حرّكت الحكومة قضية ضد الصحفى المجتهد. تطورت المعركة عندما استوقفت قوات الجيش التركى ثلاث حافلات تابعة للمخابرات التركية، وهى متجهه إلى سوريا فى يناير 2014، وتم تفتيشها، ووجد تحت صناديق الأدوية صناديق أخرى مليئة بالأسلحة وقطع غيار صواريخ وذخيرة. تم التعتيم على هذه الفضيحة، وفُصِل جميع ضباط الجيش الذين أوقفوا القافلة، ووكيل النيابة الذى أمر بالتفتيش، وأحيلوا إلى المحاكمة بتهمة التجسس على الجيش وقلب النظام. أعلنت الحكومة رسمياً بعدها أن الحافلة كانت تنقل المعونات الإنسانية والأدوية فقط.
فجر «دوندار» المفاجأة الكبرى، عندما نشر على موقع الجريدة فى مايو 2015 مقالة وفيديو للحادثة صوّره جندى مجهول يبين بكل وضوح صناديق الأسلحة، حينها جُن جنون أردوغان، ولم يستطع النفى وخرج فى مقابلة تليفزيونية ينفى دعمه لأى جماعات إرهابية فى سوريا وتوعد علناً وقال: «الشخص الذى كتب هذه القصة، سيدفع ثمناً باهظاً»، واتهم دوندار بالخيانة وطلب معاقبته بالسجن مدى الحياة. انضم إلى أردوغان رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان، ورفعا دعوى قضائية ضده. علق وقتها «دوندار» رداً على أردوغان: «إن هذه الاتهامات ليست إلا نيشان شرف لنا».
ليست هذه المرة الأولى التى يظهر فيها أردوغان قمعه للصحافة والحريات، فلقد حجب موقع «تويتر» أكثر من مرة، وعلل هذا بأن الشعب والمنظمات الدولية يستخدمونه للتجسس، وفى كل مرة كان يقول إنه «إجراء احترازى». إحدى هذه المرات كانت قبل ساعات من الانتخابات التركية فى 2014، وقال حينها «أردوغان» لجريدة «حريات» التركية: «سوف أدمر تويتر، ولا يهمنى ما يقوله المجتمع الدولى».
فى شهر أكتوبر من العام الماضى أكد «أردوغان» مرة أخرى عدم احترامه لحرية الصحافة، عندما أغلقت قوات الشرطة محطتى تليفزيون للمعارضة قبل أيام من بداية الانتخابات البرلمانية التركية.
أتذكر يوماً أننى وقفت وجهاً لوجه أمام هذا الديكتاتور فى تغطيتى لقناة «السى إن إن» فى سبتمبر 2011، عندما استقبله آلاف الإخوان فى مطار القاهرة بهتاف: «أردوغان والإخوان إيد واحدة»، حينها أصبت بالإحباط والقلق على مستقبل مصرنا الحبيبة، ثم ظهر الوجه الأقبح لهذا الديكتاتور، عندما تبنى المعركة ضد الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الأمم المتحدة بشراسة، واستمر فى النباح مطالباً بإخلاء سبيل مرسى وأعوانه.
شخصية أردوغان النرجسية، خيّلت له أنه يستطيع أن يعيد الإمبراطورية العثمانية، وهو يعيش فى قصره الرئاسى ذى الألف وخمسمائة غرفة، الذى بلغت كلفة بنائه ستمائة وخمسة عشر مليون دولار، كما أفصح هو بنفسه فى مؤتمر صحفى، وقال إن انتقاده على مسكنه الفخم ليس سوى «غيرة وحقد».
من المعروف أن أردوغان وبشار الأسد كانا صديقين حميمين قبل أن ينقلبا على بعض، ولكن هل هذا سبب لتمادى أردوغان فى دعمه المادى والعسكرى لمنظمات إرهابية فى سوريا والعراق، مثل جبهة النصرة وداعش، وإصدار تعليمات لأجهزته المخابراتية بالتساهل على الحدود مع سوريا لمساعدة العناصر الإرهابية المقبلة من دول العالم لعبور الحدود والانضمام إلى داعش؟ زاد الطين بلة تصريحات على أديبيجلو، أحد السياسيين المعارضين، الذى فضحه عندما أثبت أن أردوغان اشترى بترولاً بسعر مخفض من «داعش» مقابل مئات الملايين من الدولارات.
أما عن التحالف القطرى - التركى، فهذا يستوجب كتاباً كاملاً ربما أكتبه فى يوم من الأيام، فلقد أصبحت تركيا هى المنفى المفضل للهاربين من جماعة الإخوان، والمقر الأساسى للقنوات التليفزيونية والمواقع الممولة من قطر، التى بالطبع لن يتم حبس صحفييها!
شعرت بأنه ما زال هناك أمل، عندما رفعت المحكمة الدستورية التركية يوم الجمعة الماضى راية الحق، وأقرت بأن «حقوق دوندار الشخصية وحرية الصحافة والتعبير تم انتهاكها». صوّت على هذا القرار اثنا عشر عضواً بالموافقة، وتم الرفض من قبل ثلاثة قضاة، وتم إخلاء سبيل دوندار على ذمة القضية مع منعه من السفر. إننى أعلم جيداً شعور دوندار بالحرية، عندما شاهدته على شاشة التلفاز، وهو يحضن أنصاره وزوجته فى لحظة خروجه من باب السجن، ولكن ما جعل الفرحة فرحتين أن الجمعة ستة وعشرين فبراير يوم إخلاء سبيل «داندار» صادف أيضاً عيد ميلاد أردوغان، الذى بلغ فيه الثانية والستين عاماً!
احتفل «دوندار» وأدخل البهجة إلى قلبى، وإلى قلوب صحفيى العالم عندما صرح خارج السجن أمام الكاميرات، وقال: «هذه هدية عيد ميلاد جميلة له، وسوف نستمر».
لم ينسَ جان دوندار زملاءه المراسلين، الذين ما زالوا خلف القضبان وصرح أمام الصحافة العالمية قائلاً: «هذا الحكم يعتبر تاريخياً، وأنادى بإطلاق سراح 30 صحفياً ما زالوا فى سجون أردوغان».