ما زلت أمضى مع قطار الذكريات بصحبة سيد شهداء الدفعة 103 حربية، أتنقل بين محطات أبطال وطن ظل عظيماً برجال صنعوا تاريخه وأمجاده، أتلمس خواطر عشق لا يفنى وقصص لا تُمحى، وأسترجع أوراقاً رُويت بدماء شهداء زهرة شبابنا، وحكايات سُطرت بمداد الوفاء والنبل، قبل هذا اليوم لم أكن أوقن معنى أن يرتدى الصديق جلباب رفيق صار فى رحاب الله عز وجل، ويغفو على فراش رفيق سلاح اصطفاه ربه شهيداً، ويغمض عينيه على بقايا أيام وذكرى صحبة حُفرت ملامحها فوق جدران الفؤاد، وحتى كتابة هذه السطور لم أكن أدرك مدى قوة نساء مصر الصابرات، وعظمة أمهات الشهداء اللاتى قدمن أبناءهن قرباناً لوطن ظل أعز عليهن من فلذات أكبادهن.
نظر النقيب حسام إلى دموع والدة الشهيد أحمد عبدالسلام وقال لها: «امسحى دموعك يا أمى، فزملاء ابنك ورفاقه كتبوا على القذائف الصاروخية التى تتسلح بها طائرات الأباتشى: من أجل دمعة كل أم شهيد فى الجيش». ربتت على كتفه وأطلت الابتسامة من بين دموعها وهى تقول: «ربنا يكرمكم ويحرسكم ويرجّعكم سالمين لأهاليكم يا ابنى»، وحين ذهب ليعزى والدة الشهيد مصطفى حجاجى، فإذا بها هى التى تعزيه وتواسيه على فراق الصديق والأخ والرفيق، وتقول له: لا تبكِ يا بنى، إنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنا مطمئنة عليه فى حفظ الرؤوف الرحيم».
أما أم الشهيد محمد عادل فقد جلست تحتضن بدلته العسكرية، ولم يكن يؤرقها سوى أنها ودعته بالمنزل ولم تصحبه حتى سيارته، أغشى عليها وفقدت الوعى حين علمت بخبر استشهاده، وما إن عادت لوعيها حتى ظلت تحمد الله وتشكره على إكرام ولدها بالشهادة، أطلّت من عينيها نظرة امتزجت فيها مشاعر الألم والفخر، ثم ارتدت الملابس البيضاء وراحت تتباهى فخراً بأنها أم الشهيد، وودعته بالزغاريد إلى مثواه الأخير، وهكذا فعلت أم الشهيد «محمود طه إبراهيم» حين ودعت ضناها وقرة عينها بالزغاريد، ونثرت قطع الحلوى والشكولاتة على النعش والمشيعين، مثلما ألقت بالبدرة يوم زفافه، وما إن قام زملاء السلاح بإطلاق 21 طلقة تحية للشهيد، حتى هطلت الأمطار لتشق شمس مايو الدافئة وسط التكبيرات والزغاريد.
وهكذا أيضاً ودع أهالى «الدويقة» الشهيد حسام شرف، اصطف الجميع ليكونوا فى استقبال سيادة الرائد بالأعلام والصور والزغاريد، وألقوا بالزهور على السيارة الحاملة للنعش، وأصر الشباب على حمل الشهيد إلى مثواه الأخير، فاستجاب الجنود لطلبهم، وسار النعش المرفوع فوق أعناق عشرات الشباب المتنافسين وسط أمواج هادرة من البشر تهتف بصوت تقشعر له الأبدان وجلاً: «لا إله إلا الله.. الشهيد حبيب الله».
اقترب عدد من نساء المنطقة من «علا» زوجة الشهيد حسام وسألنها: هل أنت زوجة العريس؟! تعجبت الزوجة من السؤال وأجابت بارتباك: نعم، فسألن: وأين أم العريس؟! فأشارت إلى حماتها الواقفة بجوارها، فنظرن إليهما وقلن: «طب ليه مابتزغرتوش، عاوزين تزفوا الشهيد للجنة سُكّيتى»؟! وظل النساء وراءهما حتى أطلقت كل منهما زغرودة، وأخذت الزوجة تتابع بنظرها صغيريها «حسن وحسين» وهما محمولان فوق كتفى عمهما وخالهما، ويلقيان بالزهور على النعش، ويلتفتان بين الحين والآخر ليلوحا بأياديهما الصغيرة ووجه كل منهما ينطق بالفرحة والسعادة، وحين اقتربت الأم منهما سألها حسن فى براءة: «كل دول بيحبوا بابا»؟! نظرت إليه فى حنان وقالت: «مصر كلها بتحب بابا علشان هو بطل وبيفديهم».
ولكن، هل كان الحلم الذى تجسد للنقيب حسام وهو نائم فى فراش الشهيد مصطفى بمثابة إشارة تنبئ ببشرى دنو موعد التحاقه بأصدقائه؟! هل كانت نبوءة تشير إلى اقتراب نيله شرف الشهادة؟! وهل ستتحقق أمنيته ويحضر عيد ميلاد ولديه التوأم حسن وحسين اللذين سيكملان عامهما الخامس؟! وسيمنحه القدر الفرصة ليكمل الفصل الأخير من الكتاب، أم سيظل مهمة مبتورة مثل حياة شهداء الدفعة الذين ترك كل منهم خلفه جنيناً فى بطن أمه أو طفلة رضيعة، أو بيتاً لم يكتمل بناؤه أو بدلة زفاف لم يرتدها؟ هل ستلحق مهمته الأخيرة بالمهام العديدة الأخرى التى تركها أصحابها ورحلوا؟!
وللحديث عن أبطال مصر بقية..