تركيا فى قطاع غزة.. سد نهضة جديد

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

ما كل هذه الكلمات المتناقضة التى يشملها عنوان هذا المقال؟ ما بال تركيا الغارقة حتى أذنيها فى العراق وسوريا، وفى حرب التحالفات ضد الإرهاب؟ ما علاقتها بغزة المحاصرة والمحكومة بقبضة «حماس» التى اختطفتها من القضية الفلسطينية؟ هل لهذا علاقة بسد النهضة الذى يعلو بنيانه على الهضبة الإثيوبية خصماً من رصيد أمن مصر المائى والقومى؟ لو أن الإجابة عن كل هذه التقاطعات بكلمة واحدة، فالاختيار سيكون «نعم»، وهى فى أغلبها الأعم تقاطع لمجموعة معادلات أمنية فى صميم الأهمية القومية، تحتاج منا إلى أقصى درجات الوعى وجاهزية الفعل.

تركيا وقطر وحماس بعد عملية «الجرف الصامد» العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة يوليو 2014، تشاركوا فى مهمة واحدة هى نسف وتقويض أى جهد أو دور مصرى لمعالجة الوضع وترتيب ملف ما بعده، فشلوا جزئياً فى اختطاف محطة فرض مشهد النهاية على كل من إسرائيل وحماس، بعقدها فى أنقرة، لكنهم نجحوا فى تدمير ما بعده فى القاهرة خلال مؤتمر وجلسات إعادة الإعمار والمعونات، استثماراً للموقف المحتقن بين القاهرة و«حماس»، وتجمّد الموقف منذ هذا التاريخ على هذا المشهد، تجمّد المشهد مصرياً فقط، لكنه استمر ساخناً للأطراف الثلاثة الأخرى يتحركون خلاله فى دأب صامت ولافت. تمكنت تركيا بعد شهور فى بداية عام 2015، من عقد أول لقاء مباشر بين ثلاث قيادات سياسية من «حماس» وممثلين لحكومة «نتنياهو» لمناقشة مشروع تركى متكامل، هذا الأخير يشمل حلاً لقضية قطاع غزة منفرداً من خلال اتفاقية عدم اعتداء طويلة، تقترب من اتفاقية سلام كامل، واعتراف إسرائيلى بإمارة إسلامية تديرها «حماس» برعاية تركية وتمويل قطرى، مقابل نزع سلاح كل فصائل العمل المسلح بغزة، وعلى رأسها كتائب القسام.

الجناح العسكرى فى «حماس» رفض بالمطلق تسليم سلاحه ونزع نفوذه الذى سيستتبعه انضواؤه تحت بنود هذا الاتفاق، والقيادات العسكرية فى حماس اليوم هى صاحبة الكلمة العليا على الأرض بعدما سحبت البساط من تحت أقدام الوجوه السياسية التى انتهى دورها كـ«مشعل» و«هنية» وأمثالهما. فى توقيت هذا الطرح، تلقى هذا الجناح النافذ إخطاراً إيرانياً بتعطيل المسعى التركى، والكلمة الإيرانية مسموعة لدى تلك القيادات التى تتلقى دعماً مالياً يُقدر بنحو 150 مليون دولار شهرياً من طهران للإنفاق على النشاط العسكرى، هذا الرقم المالى يكفل لتلك القيادات نفوذاً كبيراً، وفى سبيله ولغيره من التفصيلات تعثّر الطرح التركى إلى حين.

ذهب «نتنياهو» إلى الانتخابات، وفاز واستقر بحكومته الجديدة فتجدّد الطرح التركى قبل انصرام العام نفسه الذى عزف هذه المرة على نغمتين، الأولى هى تقديم ضمان مغرٍ لإسرائيل بأن إتمام الاتفاق يكرّس للأبد القطيعة بين الضفة والقطاع، وهذه طلقة رحمة نافذة للقضية الفلسطينية برمتها، تدرك أنقرة أنها غالية الثمن إسرائيلياً، وقد يسهم إغراؤها فى حلحلة التردّد الإسرائيلى فى مواجهة مصر وفقدانها كشريك، والثانية ومن دون مواربة، تريد تركيا ابتلاع القضية الفلسطينية من العرب المنشغلين بالهموم الإرهابية، والفوز التركى بهذه الورقة يحقق لها موقفاً متقدماً فى جميع ترتيبات الإقليم التى ستدور قريباً جداً على قدم وساق، وهذا الأخير يُعد فوزاً تركياً مزدوجاً، لكونه خصماً فى الوقت ذاته من الأوراق المصرية الرئيسية والحيوية بالإقليم.

تركيا ليست «رجب أردوغان» متمثلاً فى عدائه لمصر لصالح التوافق التنظيمى الإخوانى لحزبه ولـ«حماس» ولإخوان مصر، إنما تركيا الآن مشروع متكامل، ما يمر به الآن من تعثرات على الجبهة السورية سيعوضه عراقياً، وها هو يطمح لترميمه فلسطينياً، مشروع نفوذ وهيمنة سيتقاطع حتمياً مع القوى التقليدية بالمنطقة، وعلى رأسها مصر، وهو يدير الصراع معها بمساعدة آخرين، وهو يقدم نفسه للكثيرين كلاعب جاهز لمنافسة مثيله الإيرانى الذى يزاحمه على جبهات كثيرة، لكن الخطوة الأخيرة فى غزة، التى لم ترفضها إسرائيل صراحة بإسناد القطاع للإدارة التركية وفق الترتيبات التى تتعهد الأخيرة بتنفيذها، هذا يدخل الموقف المصرى فى ضرورة استشعار الخطر البالغ، ويلزمه خطوات مصرية حاسمة غابت طوال هذا العام الذى دار فيه كل شىء داخل الملف الفلسطينى برمته، فتقديرات الموقف قد تشير إلى مصر بوضوح بضرورة التحرك الفاعل والسريع قبل أن تجد نفسها فى مواجهة سد نهضة «سياسى وأمنى» يتشكل على حدودها الشرقية، تضيق معه مساحة تحرّكها للحد الذى يهددها حقيقة على مسافة أمتار من سيناء.. فإلى أين تكون خطوات الحركة المقبلة؟ لهذا حديث آخر نتناوله الأسبوع المقبل إن شاء الله.