القس د. أندريه زكى يكتب: ميلاد المسيح.. رسالة السلام والأمل

القس د. أندريه زكى يكتب: ميلاد المسيح.. رسالة السلام والأمل
يحمل الاحتفال بذكرى ميلاد المسيح بشارة الخير والسلام والمسرة إلى البشرية جمعاء، فقد وثَّق إنجيل لوقا هذا الحدث العظيم بأنشودة الملائكة: «المجد لله فى الأعالى، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة». ورغم هذه الرسالة المليئة بالفرح، فإن ميلاد المسيح جاء فى وقت اتسم بواقع دينى وسياسى واقتصادى واجتماعى شديد القسوة.
على المستوى الدينى، كان اليهود يعيشون فترة انقطاع النبوة والوحى التى استمرت لأربعة قرون. غاب التجديد الروحى، وحل التدين الشكلى والظاهرى محل الإيمان العميق. كما تورطت القيادات الدينية اليهودية آنذاك مع السلطة الرومانية، مما جعل الدين أداةً سياسيةً.
أما على المستوى السياسى، فكان الشعب اليهودى يعيش تحت وطأة الاحتلال الرومانى القاسى، حيث فُرضت الضرائب الباهظة وزادت القيود. هذا الاستبداد السياسى أشعل روح التمرد بين بعض فئات الشعب، وأدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية.
ساهمت السياسات الاقتصادية الرومانية فى تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ازداد الأغنياء ثراءً بينما عانى الفقراء من الفقر المدقع. هذا التفاوت الاقتصادى انعكس على السياق الاجتماعى، الذى اتسم بالتفكك والصراعات الداخلية. برزت الكراهية والتفرقة على أسس عرقية ودينية بين اليهود والسامريين والأمم الأخرى، إضافة إلى نبذ فئات معينة مثل العشارين والمتعاونين مع الاحتلال الرومانى.
فى وسط هذه الظروف الصعبة، جاء الملاك ليبشر الرعاة بفرح عظيم، معلناً أن الأمل لا يزال حياً، وأن السلام والمسرة سيعودان إلى البشرية.
لقد مثَّل ميلاد المسيح كسراً لروح الإحباط واليأس، وفتح الباب أمام الرجاء والسلام.
كانت هذه الرسالة شاملة للجميع، إذ أوضح إنجيل متى أن المجوس، وهم ليسوا من اليهود، استدلوا على النجم الذى قادهم إلى الصبى المولود.
ورغم أن عملهم فى علم الفلك كان بعيداً عن الإيمان التقليدى، إلا أن سعيهم وبحثهم عن الحقيقة قادهم إلى المسيح.
بميلاده، أزال السيد المسيح حواجز العداوة بين الإنسان والله، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
ووضع الأساس للعيش المشترك القائم على المساواة والعدالة. هذه الرسالة كانت ولا تزال تُعد رجاءً للبشرية جمعاء، بأنها قادرة على تجاوز الظلام وإحلال النور.
السلام والمحبة هما السبيل إلى الفرح والتعايش وبناء مجتمع قوى.
يوضح لنا الميلاد أن السلام يبدأ بالمحبة، وهذه المحبة لا تقتصر على أفراد معينين، بل تشمل الجميع، بصرف النظر عن انتماءاتهم ومعتقداتهم.
لقد جسَّد المسيح هذه المحبة فى تعاليمه وحياته، إذ دعا إلى محبة الأعداء والصلاة من أجل المسيئين. كما أكد الرسول بولس على أهمية المحبة، قائلاً: «أما الآن فيثبت: الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة» (رسالة كورنثوس الأولى 13: 13).
تربط الرسالة المسيحية بين محبة الله ومحبة الإنسان. فكما جاء فى رسالة يوحنا الأولى: «من يحب الله يحب أخاه أيضاً» (4: 20). هذه المحبة هى السبيل لبناء مجتمعات تعيش فى سلام وتحقق الرخاء.
إذ أن المحبة تُذيب الفوارق وتُسهم فى تقوية الروابط الاجتماعية.
فى ذكرى ميلاد المسيح، نصلى من أجل وطننا الحبيب، أن يعم السلام والمحبة قلوب أبنائه.
كما ندعو أن يهبنا الله الحكمة، شعباً وقادة، لاستخدام إمكانياتنا فى بناء مجتمع يسوده السلام والعدالة.
إن رسالة الميلاد تدعونا جميعاً لنكون صُنَّاع سلام، ولنعمل على تحقيق الخير لكل من حولنا.
كما قال المسيح: «طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يُدعون» (إنجيل متى 5: 9).
إذ يأتى ميلاد المسيح هذا العام وسط أجواء من القلق والاضطراب فى أماكن كثيرة فى العالم، لا سيما فى منطقتنا العربية، ولكن الميلاد رسالة رجاء وسلام فمع كل التحديات التى نمر بها وتلك الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التى تحيط بالمنطقة العربية، نشكر الله من أجل بلادنا سلامها وأمنها، ونصلى أن الرجاء والسلام الذى يقدمه الميلاد يكون هو الأمل لكثيرين من الذين طحنتهم ظروف الحياة وكسرتهم الحروب وهمشتهم الأحداث، سلام الميلاد لكل هؤلاء لأنه هو الرجاء أن هناك حياة.. نصلى أن يشمل الله بلادنا ومنطقتنا العربية والعالم ككل.
إن السلام واحد من احتياجات الإنسان الأساسية التى يفتقدها كثيرون فى العالم فى هذه الأيام، وقيمة السلام مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعلاقة الإنسان بالله، فهى التى تمنحه سلاماً دائماً ومصالحة مع النفس تجعله يعامل الجميع بمحبة ولطف، فالسلام هو انتصار على الشر وكراهية الآخر وعلى كل جذور العنف.
نصلى لأجل عام هادئ تسوده المحبة، يعوض فيه الله الذين كُسروا أو مروا فى تحديات مؤلمة، وليكن عام الفرح، عام اليقين والرجاء أن المسيح سيد منتصر.
نتذكر كلمات السيد المسيح: أنا هو، لا تخافوا، فقد وُلد السيد المسيح فى ظروف شديدة القسوة والصعوبة، مليئة بالخوف والفقر والقلق والتحديات، ومع ذلك جاء ميلاده برسالة رجاء وسلام للعالم، تلك التعاليم التى أرساها السيد المسيح قدمت مواجهة حقيقية للتزييف الدينى والتطرف، ووضعت أسساً للتعامل مع التحديات التى تواجه البشر، ورغم كل التحديات الاقتصادية نشكر الله على سلام بلادنا واستقرارها.
* رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر