غزة تُغنى ألمها (1)

عمار على حسن

عمار على حسن

كاتب صحفي

لم يستطع أىٌّ من شعراء فلسطين الابتعاد عن قضيته الوطنية، فهى ضالعة فى ذائقته الفنية، وساكنة فى شعوره، مشتعلة دائماً فى ذهنه وإن تلهى عنها قليلاً، وتُشكل جزءاً أساسياً من معرفته ووعيه، بل إن تاريخه الشخصى، ومساره الاجتماعى مربوط بها فى الحل والترحال فى مدن فلسطين وبلداتها وقراها، أو فى مخيمات الشتات والمنافى والغربة وراء البحار أو فى الصحارى.

وقد انعكس كل هذا على الشعر الفلسطينى، فأهداه شكلاً من الغنائية بوصفها حالة فنية، تعبّر عن الانتماء الإنسانى والعربى لشعر المقاومة الفلسطينى، وكونها من خصائص الفارس المنتصر، أو المؤمل فى الانتصار.

ولا يمكن فهم هذه الغنائية المتدفّقة، إلا فى إطار تلك الشخصية البطولية المعطاءة، التى تكتسب مضمونها، لا من تأكيد الذات الضيقة، وإنما عبر التمسّك بقوميّتها وتاريخها.. لذلك لا يستسلم الشاعر الفلسطينى للهزيمة، لأنه يتمسّك بكرامته العربية، وبانتمائه واستمراره، حسبما يقول عبدالوهاب المسيرى.

وبعض شعراء فلسطين كرّسوا أغلب قصائدهم لخدمة وطنهم الضائع، مثل توفيق زياد وسميح القاسم، وبعضهم بدأ بذلك، ثم انخرط فى أغراض شعرية أخرى، لكنه كان يعود إلى نقطة الانطلاق، حتى لو سلك طريقاً شعرياً مغايراً، مثل محمود درويش.

وهناك من برزت فلسطين ناصعة فى قصائدهم، مثل سلمى الخضراء الجيوسى، وفدوى طوقان، ومعين بسيسو، وليلى علوش، وسليم جبران، وراشد حسين، وفوزى الأسمر، وأحمد حسين، وعبداللطيف عقل، ووليد الهليس، وأحمد دحبور، وعبدالكريم السبعاوى، وغيرهم. ثم جاء الجيل التالى، حيث سليمان دغش، ونزيه خير، ونعيم عرايدى، وحسين مهنا، وسميح صباغ، وشوقية عروق، ومصطفى مراد، ومالك صلالحة، وفاروق مواسى، وناجى ظاهر، وضرغام جوعية، وإبراهيم عمار، وسناء سعيد، وغيرهم. وعبّرت قصائد هذين الجيلين، شأنها شأن الألوان الأدبية الأخرى، عن أمرين أساسيين:

1- الثبات والتمسّك بالأرض، حيث البقاء والفداء والأمل، ثم الكفاح فى سبيل التحرّر، خاصة الانتفاضة وانطلاق الحلم، ومعه صور الغد والنهوض، والشهيد، والحجر.

2- ربط أدب المقاومة الفلسطينى بشكل مُحكم بين المسألتين السياسية والاجتماعية، وآمن بتلاحمهما لينطلق الفعل المقاوم، مدركاً أيضاً ذلك الترابط بين قضية الكفاح الفلسطينى ضد الاحتلال وبين قضية التحرّر فى العالم العربى والعالم، وفق ما يراه غسان كنفانى.

ويستعيد الشاعر الفلسطينى شوقى بزيع، الذى يسكن لبنان، الكثير من الأشعار التى نظمها شعراء فلسطينيون فى غزة، بدءاً بسميح القاسم الذى يخاطبها قائلاً:

«ما أنت؟ من؟ أمدينةٌ أم مذبحة؟/ يتفقد الأغراب من حينٍ لحينْ/ تفاح جرحك/ هل سيُثمر للغزاة الفاتحين؟/ تفقد الأغراب جرحكِ: قد تموتْ/ فى الفجر غزة قد تموتْ/ وتعود فى الفجر الحزينْ/ صيحات حبكِ والحياة/ أقوى وأعلى/ يا صباح الخير أختَ المعجزاتْ».

وهناك قصيدة محمود درويش «الخروج من البحر المتوسط»، التى يقول فيها:

«أتيتُ أتيتُ/ سيروا فى شوارع ساعدى تصلوا/ وغزة لا تبيع البرتقال/ لأنه دمها المعلّبُ/ كنت أهرب من أزقتها/ وأكتب باسمها موتى على جميزة/ إن الوضوح جريمة/ وغموض موتاكم هو الحق الحقيقة/ آه لا تتحرك الأحجار/ إلا حين لا يتحرك الأحياءُ/ فالتفّوا على أسطورتى».

وتوجد قصيدة للشاعر معين بسيسو، يقول فيها:

«يُفرد القلبُ جناحيه بعيداً ويطيرْ/ لبساتينكِ يا غزّتىَ الخضراء/ فى ليل الجحيمْ/ ولجدرانكِ تغلى كالصدورْ/ غزّتى أنا لم يصدأ دمى/ فى الظلُماتْ/ فدمى النيرانُ فى قشّ الغزاةْ/ وشراراتُ دمى فى الريحِ/ طارت كلماتْ».

ويقول أيضاً فى قصيدة أخرى بعنوان «معركة»:

«أنا إن سقطتُ فخذ مكانى/ يا رفيقى فى الكفاحْ/ واحملْ سلاحى لا يُخفكَ/ دمى يسيل على السلاحْ/ وانظرْ إلى شفتىّ أُطبقتا/ على هوُج الرياحْ/ وانظرْ إلى عينىّ أُغمضتا/ على نور الصباحْ/ أنا لم أمتْ أنا لم أزل أدعوك/ من خلف الجراح».