ساعات التعب
بدأت متاعب على بن أبى طالب، الفارس صاحب النقاء الإيمانى، خلال الأيام الأخيرة فى حياة النبى.
فمنذ أن مرض صلى الله عليه وسلم مرضه الذى توفى فيه، كان «علىّ» أكثر إنسان يتوجع لوجعه، كان ألمه مضاعفاً، وهو يرى نبيه الذى آمن به وأباه الذى تعهده بالرعاية والتربية، يستعد للرحيل إلى ربه، وكذلك وهو يشارك زوجته الحبيبة «فاطمة» كربها ووجعها على أبيها الذى يعيش ساعاته الأخيرة.
كان يكفى «علياً» جداً خلال هذه الفترة ما يكابده من أحزان على النبى، صلى الله عليه وسلم، لكنه واجه ضغوطاً أخرى عديدة من جانب أنصار رسول الله الذين كانوا يتحسبون لوفاة النبى، ويخشون من استفراد المهاجرين بالحكم من بعده، كانوا يريدون دعم «علىّ» لهم ليأخذوا فرصتهم فى المشاركة فى الحكم، أو يدعموه هم ليتولى خلافة النبى، لأنهم كانوا يرون أنه سيكون أكثر رعاية لهم وأشد عطفاً عليهم، لأنه ربيب رسول الله المحب للأنصار، والذى اختار المدينة منزلاً له وأهلها أهلاً له، وعاش فيها حتى قابل وجه ربه، ثم آواه ترابها فى النهاية، كانوا يوقنون أن «علياً» يحب الأنصار، كما أحبهم رسول الله.
ضغوط أخرى عاناها «علىّ» من جانب عمه العباس بن عبدالمطلب، الذى ألحَّ عليه ليدخل إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه أن يعهد له بالأمر من بعده، أو يمكّنه من إملاء الكتاب الذى يريده، والذى سيعهد فيه لمن يلى الأمر بعد رحيله.
أبى «علىّ» الاستجابة للعباس، وخجل أن يطلب شيئاً لنفسه، كما كان واعياً بأن التمكين لشاب من بنى هاشم، بعد وفاة النبى، لن يكون بالأمر السهل بحال، فى وجود الأفاضل الكبار من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم. وقد انتهى الأمر كما تعلم إلى الشيخين أبى بكر الصدِّيق، ثم عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، ولم يطرح اسم «علىّ» كخليفة للمسلمين، إلا حين وضعه «عمر» ضمن أصحاب الشورى الستة، بعد أن طعنه «أبولؤلؤة».
ولعلك تعلم التفاعلات التى أحاطت بعمل أصحاب الشورى، وكيف تولى عبدالرحمن بن عوف إدارة المشهد بين كل من عثمان وعلىّ، بعد أن انتهت إليهما المنافسة على موقع الخليفة، وقد عرض عبدالرحمن بن عوف على «علىّ» أن يحكم بالقرآن وسنة النبى وعمل الشيخين أبى بكر وعمر، فرد «علىّ»: أعمل بالقرآن وسنة النبى ثم أجتهد لنفسى، وعرض «عبدالرحمن» الأمر نفسه على «عثمان» فقبل أن يعمل بالقرآن والسنة وعمل الشيخين، فمد يده وبايعه خليفة ثالثاً للمسلمين، وبايع الناس من بعده.
رغم أن «عثمان» تولى الخلافة بشرط الالتزام بعمل الشيخين، إلا أنه سرعان ما حاد عن العديد من الأمور التى استند إليها عمر بن الخطاب، على وجه التحديد، فى إدارة شأن المسلمين، فقد كان الأخير يمنع كبار الصحابة من السياحة فى البلاد، وفتح «عثمان» الباب لهم، ولم يكن «عمر» يترك فرصاً لتمدد أصحاب الثورات، أو يمنحهم نفوذاً مصدره ما يملكون من مال، وقد تكونت فى عصر «عثمان» ما يشبه أوليجاركية جديدة من كبار الأثرياء الذين أحاطوا بالخليفة المنتمى بالأصل إلى الطبقة الثرية داخل مكة، كما لم يلجأ «عمر» إلى أقاربه وعينهم فى المناصب، وقال قولته الشهيرة: «كفى آل الخطاب عمر»، لكن «عثمان» مكّن لعائلته الأموية من مناصب الدولة، ولم يكن أداء هؤلاء على النحو الذى يرضى المسلمين، ونتيجة لذلك بدأت خلال سنواته الأخيرة حركة تمرد ضده أدت فى النهاية إلى اغتياله، رضى الله عنه.