لطالما مررت بسيارتي أمام مقابر الكومنولث في منطقة أرض الجولف بمصر الجديدة حيث نشأت بالقرب منها.. وبالسؤال عنها علمت أنها مقابر الجنود البريطانيين الذين لقوا حتفهم في مصر وأن هناك نسخا أخرى مشابهة في الإسكندرية و العلمين لضحايا معارك الحرب العالمية الثانية ..حقيقة الأمر (وبعيدا عن فكرة احتلال الأرض) طالما تأثرت بكونك أن تدفن بعيدا عن وطنك.. والأغرب وبعد سنوات أزعم فيها أني أحد قراء التاريخ.. لم أتصور أن يكون هناك مصريون قد دفنوا في أنحاء متفرقة من القارة الأوروبية بعد مشاركتهم كوقود للحرب العالمية الأولى.
كانت هذه هي الفكرة التي جذبتني إلى أروقة المركز القومي للترجمة الذي استضاف الكاتب الأمريكي كايل أندرسون الأسبوع الماضي احتفالا بترجمة كتابه (فرقة العمال المصرية ..العرق والفضاء والمكان في الحرب العالمية الأولى) والتي حاضر فيها بعد وصوله للقاهرة بصحبة د.كرمة سامي رئيسة المركز و مترجمي الكتاب الدكتور شكري مجاهد والمترجم الشاب محمد صلاح وبصحبتهم العلامة الدكتور عاصم الدسوقي.
تبدأ صفحات الكتاب برحلة المؤلف لمقابر أدنكرك (Adinkerke) العسكرية الواقعة بين فرنساوبلجيكا.. والتي لمح فيها بين آلاف الصلبان .. كلمات عربية تزينت بآيات من القرآن وتبينأنها للمسلم الوحيد المدفون في أدنكِرك وهو ثابت هارون محمد .. من هو هذا الشخص وكيف شارك في هذه الحرب؟
ينطلق الكاتب من هذا المشهد للقصة المنسية لفرقة العمال المصريين .. اللذين تناثرت قبورهم في فلسطين و لبنان و سوريا و العراق وتركيا و اليونان و ايطاليا و مالطا و بلجيكا و فرنسا..بدأت القصة حينما فرض البريطانيون الأحكام العرفية في مصرعام 1914، وجندوا ما يقرب من نصف مليون شاب بلغ عددهم نحو أربعة بالمائة من ريف مصر و صعيدها .. لخدمة جنود الإمبراطورية البريطانية على كافة جبهات القتال؛ فاشتغلوا بالشحن والتفريغ على أرصفة فرنسا وإيطاليا، ومد خطوط السكك الحديدية .. وحفر الخنادق و حمل المصابين وتجهيز الطعام وشحن المؤن في صحاري ليبيا والسودان وسيناء بجانب جنسيات اخري مثل الهنود و الصينيين و الأفارقة و مختلف جنسيات مستعمرات الامبراطورية البريطانية .يقول اندرسون على سبيل المثال أنه يُقدر عدد من ماتوا من العمال في فلسطين بأكثر من عشرة آلاف شخص، لكن لا يوجد في المقابر هناك إلا مئتان وعشرون قبرا .. و ذلك لكون الكثير من رجال الفرقة لم تعرف هوياتهم، ورقدوا في مقابر غير معرّفة .. ويرى الكاتب أن التمييز بين الإنجليز والملونين في الطعام والشراب والترفيه والرعاية الصحية وحتى مراسم الدفن قد لعب دورا بارزا في تقسيم المعسكرات الى جانب أبيض مميز وجانب ملون يعمل على خدمة الأول ..حتى شواهد القبور حصل فيها البيض على قبور تؤرخ لانجازاتهم و تكتب تواريخ الميلاد و الوفاة .. بينما يدفن العامل الملون دون شاهد قبر أو على الأكثر يكتب اسمه وتاريخ وفاته .تتبعت فصول الكتاب وعد البريطانيين بعدم تجنيد المصريين في الحرب لكونهم مسلمين لا يمكنهم الدخول في صراع مباشر مع الخلافة العثمانية. ومع دوران رحى الحرب وفشل دعوة الخليفة للجهاد رأي فيهم البريطانيون مصدرا للقوى العاملة فصنفهم عرقيا مع الشعوب السوداء والبنية والآسيوية القائمة على الإمداد اللوجستي للمعسكرات.. يصف الكتاب كيفية احتجاز وتكدس المصريين في مراكز الفحص الطبي والتي تحدد نقلهم لوجهتهم الجديدة. فمن ذهب منهم لأوروبا عبر البحر هاجمته الغواصات الألمانية ومن نجا من البحر اشتغل في الصحراء ليمد أكثر من 130 ميلا من السكك الحديدية بين مصر وفلسطين.ثم ينتقل المشهد الأخير في الكتاب إلى ثورة 1919 في مصر وكيف أثر عمل الفرقة المصرية على إشعال فتيل الثورة بعد استغلال المصريين في حرب لا ناقة لهم فيهم ولا جمل.
في النهاية يمكن أن نقول أن هناك الكثير من المراجع التاريخية العالمية التي ترصد وجود المصريين في الحروب الكبرى ولكن قليل منها ما يتعاطف مع المصريين ويرصد أشكال العنصرية التي تعرضوا لها وخصوصا أن أتت هذه الشهادة من كاتب غربي تعاطف مع هؤلاء المصريين المنسيين في حرب لم تقدم إلا مزيدا من الطاقة للمستعمر البريطاني لاستنزاف موارد البلاد.