لست أدرى مَن العبقرى الذى اخترع أن تخصّص أماكن للسيدات فى المساجد فى دور علوى معزول عن الفضاء الداخلى للمسجد، وغالباً ما يكون فى الدور الثالث فى سلم درجاته ضيقة متعبة، لا تراعى أى جوانب صحية أو إنسانية.
فمثل هذا النوع من المساجد لا أدخله إلا مضطرة فى صلوات الجنازة، وأشاهد المعاناة لكثير من السيدات المتقدّمات فى السن، فى مشهد فى منتهى القسوة وهن يجاهدن فى صعودهن ثم هبوطهن تلك الدرجات غير الإنسانية، وقد تكدّسن فى السلم الضيق بين آلام العظام من ناحية وآلام فقد المتوفى من ناحية أخرى، ناهيك أنهن رغم أن المكان مرتفع كثيراً عن المسجد ويقع فى خلفيته، إلا أنه قد أغلق تماماً بما يعزل السيدات عما يجرى فى قلب المسجد. أى أن بُناته لم يكتفوا بكون السيدات فى الخلف فى مكان مرتفع، بل أيضاً مسور بأسوار أمامية ذات ثقوب ضيّقة، تمنع الرؤية وتمنع الهواء، وهذا ليس له من تفسير سوى أن من صمّم هذه الفكرة كان يهدف إلى الحجر على السيدات!
هذه ظاهرة دخيلة علينا تماماً، فلم نسمع بها فى عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم نرَها فى مساجد آل البيت، ولم تكن موجودة حين كانت القاهرة ذات ألف مئذنة فقط، وليس كما هو الآن عشرات الآلاف من المساجد، كان المتعارف عليه أن تكون السيدات فى الصفوف الخلفية، أو يخصّص لهن مكان جانبى كما هى الحال فى مساجد مصر القديمة، ومثل كل مساجد العالم الإسلامى، حتى إن هذا لا يحدث فى المسجد الحرام ولا فى المسجد النبوى، بل أحياناً ما يختلط الرجال بالنساء فى الصلاة فى المسجد الحرام أثناء الحج، ولم يعترض أحد ولم يذهب بعقله إلى سوء النية، بل إن هذا يوفر حماية للمرأة من محارمها أثناء الصلاة واختلاطها بالرجال فى هذا الموقف العظيم.
من الذى نشر هذا الفكر فى بلدنا، وصنع هذه الصورة الغريبة عن الإسلام وعما يجب أن تكون عليه دور العبادة، كل دور العبادة مساجد كانت أو حتى كنائس، من الذى سمح أن يقوم كل من بنى مسجداً بأن يُكرّس فكره الغريب دون وضع قواعد ثابتة وإنسانية لبناء المساجد، التى من الواجب أن تكون قريبة من أرض الله ومن التراب الذى خلقنا منه الله، لا أن تعلو لفئة واحدة مستضعفة يجب عزلها والتضييق عليها.
أعتقد أن هذا الفكر هو امتداد للفكر الذى يرى أن المرأة عورة يجب إخفاؤها تماماً، وهذا الفكر هو نفسه الذى يفترض سوء النية والسلوك فى الرجال، وأنهم سيتركون وقوفهم بين يدى الله، ليتلصّصوا على النساء، حتى إن كانوا وراءهم، وحتى إن كانوا فى مكان مرتفع، وهم يتغافلون عن تاريخ الإسلام كله، كما أن النساء كن يشاركن الرجال فى الصلاة خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بل ويشاركون ويسألون الرسول، وهو ما حدث أيضاً فى عهود الخلفاء الراشدين، وربما نعلم كلنا القصة الشهيرة حين أصابت امرأة وأخطأ عمر بن الخطاب، لم تكن فى الدور الثالث ولم تكن معزولة بسور كما هو الحال الآن فى كثير من هذه المساجد.
نحن لا نطالب بالاختلاط فى الصلاة كما طالب البعض، ولا نطالب بشىء غريب عن دور العبادة، بل إن هذه المساجد هى الدخيلة، ونحن نطالب بإعادة المساجد لما كانت عليه، لهذا يجب أن تكون هناك جهة منوطة بتطبيق معايير الدين والإنسانية، ولعل وزارة الأوقاف هى الأقرب لهذا الدور، وعليها وقف هذه المهزلة غير الإنسانية، التى تصل إلى درجة التعذيب، والتى لا صلة لها بالدين من قريب أو بعيد.