إذا أردت أن تتعرف على القلوب الخاوية التى انتشرت فى مجتمعنا وأصبحت من سمات العصر فتجول بين مواقع السوشيال ميديا المختلفة واقرأ عما يبحث عنه الأبناء لآبائهم وأمهاتهم كبار السن.
لا تتعجب، فالمطلوب جليس لمسن أو جليسة، بخلاف الاستفسار والبحث عن أسعار بيوت المسنين وعناوينها ودرجات الإقامة بها وتكلفتها، وتلك الاستشارات على جروبات السيدات الخاصة لمن تبحث عن حل لمشكلة إقامة الأم معها، وكيف تتعامل مع الزوج لتقنعه باستضافة الأم أو الأب لعدم وجود بيت خاص بهما بعد أن منحاها كل شىء لتبدأ حياة جديدة مستقرة ولتملك بيتاً به جميع وسائل الراحة.
وهذه الزيارات لأخصائيى العلاقات الأسرية، وأكثرها حول علاقة الأبناء بالآباء والأمهات، وكيف تعبر الإحساس بعدم الرضا من الأبناء وتصرفاتهم والإحساس بالجوع العاطفى والاحتياجات النفسية التى لا يجدها هؤلاء الكبار.
ومن الظواهر الإلكترونية التى تعبر عما نعيشه فى المجتمع المصرى الذى عرف من قبل بأنه مجتمع عاطفى يشع إنسانية وترابطاً أسرياً تلك المواقع التى تطلق على نفسها أسماء لكبار السن فقط، فهناك أصدقاء فوق الخمسين، وأخرى أصدقاء فى الستينات، حيث يحاول من يتولون تلك المواقع إشغال تلك الفئات بأنشطة اجتماعية ورحلات تناسبهم فى محاولة للقضاء على الإحساس بالوحدة وخذلان الأبناء.
هكذا تحولت الاهتمامات وتغيرت القلوب وتحجرت وقست، ولا يتوقف الأمر عند هذا فقط، فبعد ازدياد حالات الهجرة للخارج أو العمل فى دول عربية أو أجنبية أصبحت معاناة كبار السن مؤلمة وتفتت الأسر الكبيرة بحثاً عن عمل ورزق جديد وحياة مختلفة تماماً. ويبدو أن الأحداث الاقتصادية المتسارعة فى العالم كله لعبت دوراً كبيراً فى هذا التحول اللا إنسانى وتغيرت معادلات الحياة ونتائجها، واختلف معنى الحب لدى الأبناء والأحفاد، كما اختلفت الأهداف والأحلام، وأظلمت بيوت كبيرة كانت سابقاً تضىء ليلاً ونهاراً وتنطلق منها الضحكات وأصوات الصغار وتزين جدرانها صور عائلية يشع منها الحب والحنان وتجتمع فيها أجيال متعاقبة تحكى وتتحدث عن ذكريات هؤلاء بلا ملل ولا ضجر.
وظهر فى المجتمع المصرى ما يعرف باسم دار الرعاية لكبار السن أو دار المسنين فى جميع المحافظات، حتى تلك التى تنتمى لمحافظات الدلتا والجنوب والتى لم تعرفها من قبل. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت وثيقة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان التاريخية منذ أكثر من ٧٥ عاماً، وفى ١٤ ديسمبر ١٩٩٠ أعلنت فى قرارها ١٠٦ / ٤٥ يوم الأول من أكتوبر بوصفه يوماً للمسنين، وجاء هذا الإعلان لاحقاً لمبادرة خطة العمل الدولية التى اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى قرارها ٣٧ /٥١ المؤرخ فى ديسمبر ١٩٨٢.
أما أول وثيقة دولية تضع أساساً لصياغة السياسات والبرامج المتعلقة بالمسنين فكانت هى خطة العمل الصادرة عن القمة العالمية للمسنين التى عقدت بفيينا عام ١٩٨٢ والتى تم تحديثها وتنقيتها بعد عشرين عاماً خلال اجتماعات مدريد عام ٢٠٠٢.
وفى مصر أوضحت نتائج التعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت، الذى يصدر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أنه من المتوقع أن تصل نسبة السكان ٦٠ عاماً فأكثر نحو ١٢٪ من التعداد العام بحلول عام ٢٠٣٠. حيث بلغ عددهم ٩ ملايين نسمة فى شهر يوليو الماضى ٢٠٢٣ بنسبة ٨.٦٪ من إجمالى السكان، وفى هذا السياق، ذكر جهاز الإحصاء عدداً من المؤشرات الخاصة بالخدمات الاجتماعية المقدمة لكبار السن؛ حيث أوضح أن هناك ١٦٦ مؤسسة رعاية للمسنين على مستوى الجمهورية بعدد منتفعين ٤٧١٩، بالإضافة إلى عدد أندية المسنين الذى بلغ ١٩٢ نادياً بعدد منتفعين وصل إلى ٤٠ ألف مسن.
وفى ذات الإطار، أكد جهاز الإحصاء حرص الدولة الدائم على رعاية المسنين والحفاظ على حقوقهم، مدللاً على ذلك بنص المادة ٨٣ من الدستور المصرى الذى تم تعديله فى ٢٠١٤ والتى تنص على أن تلتزم الدولة بضمان حقوق المسنين صحياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وترفيهياً، كما تشجع منظمات المجتمع المدنى على المشاركة فى رعايتهم.
ورغم ما يضم هذا الملف الشائك من وثائق وصكوك ذات صلة بهؤلاء ومنها تقارير الجمعية العامة للأمم المتحدة بتواريخها وأرقامها المسجلة، خاصة ذلك القرار (متابعة الجمعية العالمية للشيخوخة الأول والثانى)، وكذلك قرار الجمعية العامة بشأن اليوم الدولى للمسنين والإعلان السياسى وخطة عمل مدريد الدولية للشيخوخة وإعلان برلين الوزارى ومن قبلها خطة عمل فيينا الدولية للشيخوخة، فإن كل هذا لا يساوى لقاءً مع الأبناء فى بيت العائلة القديم، أو اتصالاً يومياً للاطمئنان على الحال، ولمسات حانية من تلك الأيدى التى أمسكت بها فى الطفولة حتى أصبحت الآن هى الملاذ والأمان، فرفقاً بكبار السن.