حسام مصطفى يكتب.. أسامة أنور عكاشة يغيّر بوصلة خالد يوسف

كتب: الوطن

حسام مصطفى يكتب.. أسامة أنور عكاشة يغيّر بوصلة خالد يوسف

حسام مصطفى يكتب.. أسامة أنور عكاشة يغيّر بوصلة خالد يوسف

حالة من الترقّب والانتظار خلّفها الإعلان عن مشروع تصدى المخرج خالد يوسف لإخراج «الإسكندرانى»، أحد المشروعات السينمائية المرجأة للكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، الذى لم يمهله الموت الفرصة لإنجازه، وربما ارتكنت تلك الحالة على الاختلاف بين طبيعة الكاتب من ناحية والمخرج من ناحية أخرى، فلكل منهما عالمه الخاص الذى خاض رحلة طويلة فى ترسيخ وتأصيل ملامحه، فالمخرج خالد يوسف منذ انطلاق أول أفلامه الروائية «جواز بقرار جمهورى» عام 2001، تمظهر تمرّده على أستاذه المخرج العالمى الراحل يوسف شاهين، بتأسيس طرح سينمائى مغاير عنه، وحالة استقطاب نوعى لجمهور مختلف عن جمهور أستاذه، من خلال انحيازاته للواقع برمته.. بمبالغاته وجرأته، وبطرح فكرى يبعد عن التغريب والترميز، والتخلى عن الجمهور النخبوى والاكتفاء باحترامه فى مقابل خطاب سينمائى موجّه إلى قطاعات عريضة من الجماهير، من خلال اختيار هموم وقضايا البسطاء وأبطال أفلامه من بينهم، وانعكاسات المتغيرات المجتمعية على تلك الفئات وانخراطهم فى إحداث الأثر على العالم الذى يطويهم، والتعرّض لدراما المكان، كما فى عشوائيات «حين ميسرة»، و«كلمنى شكراً»، واقتحام الثابت والراسخ من العلاقات والنبش فى أغوار شخوصها بين الأشقاء فى «خيانة مشروعة» و«دكان شحاتة» والأصدقاء فى «ويجا»، بمعالجات قاتمة شكّلت مفاهيمه الخاصة عن الحياة والحقيقة وواقعيته الخاصة، التى اعتذر عن قساوتها فى نهاية فيلمه «حين ميسرة»، الذى شكّل لهجة تحذيرية من العشوائيات، كقنبلة موقوتة تُنذر بالانفجار، وسوس ينخر فى جسد الوطن.

وجد خالد يوسف ضالته فى العوالم السرية وغير المتاحة للاطلاع، التى يجهل الكثير منا أسرارها وقوانينها وشروطها، من منطلقات وممكنات لجرأته، وتناول المسكوت عنه من العلاقات فى «الريس عمر حرب»، عالم المقامرة من طاولة القمار إلى المقامرة على الحياة وشخوصها، وبين الاتفاق والاختلاف حول ما قدّمه خالد يوسف ومشروعه الفنى وأيديولوجيته السينمائية، تشكّلت سينما خالد يوسف بخصوصيتها الفكرية والفنية.

على الجانب الآخر، انحاز الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة فى طرحه الفكرى إلى القضايا القيمية والأخلاقية المتعلقة بالمبادئ والشرف والأصالة، فى مقابل الاستهلاك والزيف وصراع القبح والجمال، ورصد سيرورة تاريخ المجتمع المصرى وما أحدثه من تغييرات على الشخصية المصرية، من خلال تعالقها بين العصور والعهود المختلفة دون تبنى فئة على حساب فئة أخرى، فالمجتمع وحدة واحدة وليس جزراً منعزلة، فالقصور فى «ليالى الحلمية» لم تنفصل عن الحى الشعبى بحاراته ومقاهيه، وفى درامته المكانية أحياء الإسكندرية الراقية لم تنسلخ عن أحياء بحرى، التخالط والتجذر حاضر فى كتابات الراحل أسامة أنور عكاشة، الشخصيات بمختلف تبايناتها لديها وعى وموقف بالحدث الواحد، ربما ما يختلف هو الأثر وموقف الشخصيات، دراما الإصلاح ومكابدة ثمن هذا الإصلاح وقرار الشخصيات فى إحداث الفارق المجتمعى مهما كابدت ومهما عانت من وراء اختياراتها، كما أبوالعلا البشرى فى «رحلة أبوالعلا البشرى»، د. مفيد أبوالغار فى «الراية البيضا»، أبلة حكمت فى «ضمير أبلة حكمت»، د. ولاء فى فيلم «دماء على الأسفلت»، وحسن عز الرجال فى «كتيبة الإعدام».

من هنا يقبع موضع فيلم «الإسكندرانى» فهو يقف على أعتاب عالمين، عالم كاتب له معتقداته الفكرية المتأصلة، وعالم مخرج له وِجهته وتوليفته السينمائية فى تناول ومعالجة الواقع، الكاتب يُؤمن بالأمل والخير الذى ينتصر فى معاركه، والمخرج يؤمن بأن الواقع يُجهض ميلاد الأمل، فلمن الغلبة؟ ومن استسلم للآخر؟ يجيب عن هذه الأسئلة الفيلم نفسه، الإسكندرية رغم ظهورها الباهت فى الفيلم هى مكان الأحداث، ينتظر «على الإسكندرانى» صاحب وكالة لتجارة الأسماك عودة ابنه الوحيد «بكر» الذى رحل عنه قبل عشر سنوات بسبب خلاف نشب بينهما على أثر سرقة «بكر» خزنة الوكالة للدخول فى صفقة بالميناء رغبة منه فى تحقيق استقلاليته عن والده الذى يعانى من مرارة شرود ابنه الوحيد عن كاره، لكن يخسر مال والده الذى يطرده، ويُقرّر بكر استقلال مركب والعبور إلى الشاطئ الآخر تاركاً حبيبته «قمر»، ساعياً وراء أحلامه المزعومة، ينجرف بكر إلى العمل فى التجارات المشبوهة ويحقّق الثراء، ويقرّر العودة إلى الإسكندرية، ليُثبت لأبيه وابن عمه يونس الذى يدير وكالة والده أنه أصبح أفضل مما كانا يظنانه، لكنه يجد خطيبته تزوجت من يونس وأنجبت منه، ويدرك أن يونس أخفى خطاباته، وأغلق أبواب التواصل بينه وبين أبيه وخطيبته، فيُقرر «بكر» الانتقام واسترداد ما سُلب منه بالعنف والفساد، ولم يجد من يتصدى له بعد أن أخضع الكل، وفرض سطوته إلا سكينة والده.

احترم خالد يوسف نص الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة وغير بوصلته، وحافظ على مخاوف الكاتب من الهجرة الشرعية وغير الشرعية، وعلى الذين يعتقدون أن آمالهم وأحلامهم تنتظرهم على الشاطئ الآخر دون الوعى باحتمالية تحول تلك الأحلام إلى كوابيس، هاجس الهوية وصراع الأجيال ومحاولة استنساخ الأقدار والمصائر وفرض السيطرة بين أطراف الصراع.. وانتصار الخير على الشر ومنطق التطهر الأرسطى، فقد رحل «بكر» ورحل «يونس» بما اقترفاه وظلت المدينة.

تمظهرت الخطية السردية فى الفيلم من خلال سير الأحداث الخطى الذى لم يخلُ من أسلوب التقديم والتأخير فى ظهور «بكر» الأول فى استهلال الفيلم وإعلانه العودة إلى الإسكندرية، وفى موضع آخر القطع المتوازى بين كفتى صراع الفيلم «بكر» ووالده «على الإسكندرانى».

فى الوقت نفسه الذى يصارع «بكر» خصماً له فى مراهنات المصارعة، يجامل والده أحد المعلمين برقصته الشهيرة بالسكاكين، حمل الفيلم بين طياته نمطية بعض شخصيات الفيلم، فالخواجة «يورجو» الذى أداه النجم حسين فهمى، أحد الأجانب العاشقين لتراب الإسكندرية، الغاضب دائماً من إلحاق اسمه بلقب خواجة، المحاول دائماً التقلّد بأخلاقيات الإسكندرانية، ولكن فى مقابل نمطية بعض شخصيات الفيلم نقف عند شخصية «على الإسكندرانى»، التى أداها الفنان «بيومى فؤاد»، الذى يبدو دائماً أنه على موعد مع كتابات الراحل أسامة أنور عكاشة، لإعادة اكتشافه، فكما أبدع فى «موجة حارة» المأخوذ عن رواية «منخفض الهند الموسمى» فى شخصية «الشيخ سعد العجاتى» أبدع فى شخصية «على الإسكندرانى»، فهو الممثل القادر على الإبكاء فى الفيلم، بقدرته نفسها على الإبكاء من الضحك.

على الإسكندرانى يشبه الشخصيات الأدبية، يعيش الحياة كما يقول «اتنين اتنين»، رجل صالح تقى يجامل ويغلق الأبواب أمام الثراء الآتى من الفساد، ويكتفى برصيده من دعاء البسطاء عن الثراء وطرق أبواب الفساد وتغيير الكار، وفى الوقت نفسه يلهو ويرقص ويجمع بين أكثر من زوجة فى منزل واحد، فى حين يراهن خالد يوسف على بطل جديد للسينما، هو الفنان أحمد العوضى، وهو يجيد هذا النوع من المراهنات، فقد سبق أن قدّم هانى سلامة وعمرو سعد من قبل، لكن ما يجعل الأمر مختلفاً هذه المرة هو الرهان على الفنان الذى استطاع فى السنوات الأخيرة أن يكسر الحواجز بينه وبين الجماهيرية، ويعيد خالد يوسف تقديم النجمة زينة فى شخصية «قمر»، التى تنبئ عن مرحلة تطوّرها ونُضجها، بالإضافة إلى الحضور الخاص للوجه الجديد تسنيم هانى فى شخصية «إيلينا»، وأكسبت شخصيات الفيلم وجودها وحيويتها كاريزما الكبار صلاح عبدالله فى شخصية «مرسى»، والنجم الكبير «حسين فهمى» فى شخصية «يورجو».

ولم يتخلَّ خالد يوسف عن مفرداته الخاصة فى استخدام صوت الفيلم من خلال الأغنية وأداء «عبدالباسط حمودة» التى تعلق على الحدث، أو تسدل الستار على أحداث الفيلم، بجانب حركة الكاميرا التى تتحرّر عن ثباتها مع حركة الممثلين وتكويناتها فى مشاهد الفيلم، وتحديداً فى مشهد النهاية لإنجاز المعانى البصرية والدرامية.

 


مواضيع متعلقة