الأب بطرس دانيال يكتب.. العين البناءة  

كان السيد المسيح يعلّم الجموع والتلاميذ قائلاً: «إنَّ الكَتَبةَ والفِرِّيسيِّينَ على كرسىِّ موسى جالِسون، فافعَلوا ما يَقولونَ لكم واحفَظوه. ولكن لا تَفعَلوا مِثلَ أفعالِهم، لأنّهم يقَولونَ ولا يفعلَون....» (متى 23: 1-3). كم من الأشخاص الذين يُعلّمون المبادئ والقيم والأخلاق، ولكنهم يعيشون ضد ما يتفوّهون به؟ ليست المشكلة فيما يقولونه؛ بل فيما يفعلونه وما لا يفعلونه، لأن هناك تناقضاً واضحاً بين كلماتهم وأعمالهم. هنا يحضرنى موقف حدث مع غاندى، عندما جاءت إليه إحدى الأمهات تشكو من ابنتها التى تلتهم كميات كبيرة من الحلوى بشراهة، وكانت قلقة عليها، فقالت له: «مِن فضلك يا مهاتما، تحدّث مع ابنتى لإقناعها بالتوقف عن هذا التصرف الضار». صمت غاندى للحظات، وقد شعر بالحرج قليلاً، ثم قال لها: «أحضرى ابنتكِ إلىّ هنا بعد ثلاثة أسابيع، وبعد ذلك سأتحدث معها، وليس قبل ذلك». فخرجت الأم فى حيرة، ولكن دون أن تجيب بكلمة، ثم عادت إليه بعد ثلاثة أسابيع كما اقترح عليها، مصطحبة معها ابنتها المريضة بالشراهة فى أكل الحلوى. وهذه المرة أخذ غاندى الفتاة جانباً، وتكلم معها بلطفٍ، وبكلماتٍ بسيطة ومقنعة للغاية، مبيناً لها الآثار الضارة التى يمكن أن تسببها كثرة الحلويات، وطلب منها أن تأخذ حذرها من ذلك. ثم طرحت عليه الأم سؤالاً بعد أن قامت بشكره: «أشبع فضولى يا مهاتما.. أود أن أعرف لماذا لم تقل هذه الأشياء لابنتى منذ ثلاثة أسابيع؟»، ابتسم لها غاندى وأجاب: «منذ ثلاثة أسابيع، أنا أيضاً كنتُ شرهاً فى تناول الحلويات بكثرة!».

من المحتمل إذا أراد بعض المربين أو أصحاب الأخلاق تبنِّى أسلوب غاندى، فإن تلاميذهم سيضطرون إلى الانتظار لفترة أطول بكثير من ثلاثة أسابيع، أو سينكرون هذا الضعف الموجود عندهم. لذلك من يُرد أن يعلّم الآخرين أو ينصحهم بالسلوك الجيد والأخلاق الحميدة، عليه أن يبدأ بنفسه لإصلاح حياته، ومِنْ ثم ستكون لكلماته التأثير المدوى على الآخرين، عندما يرون تصرفاته ويلاحظون أعماله. مما لا شك فيه أننا قلّما ننظر للغير نظرتنا لأنفسنا، لأن الغالبية العظمى تظن أنها بلا عيب، كما أنها تبرر كل ما يصدر عنها من أخطاء وسلبيات، وهناك الأشخاص الذين يعرفون عيوبهم ونقائصهم جيداً، ولكنهم يظهرون للناس بصورةٍ أخرى، حتى لا يفتضح أمرهم. كم من المرات التى ألقينا فيها عيوبنا وأخطاءنا خلف ظهورنا، بينما نضع نصب أعيننا أخطاء وسلبيات الآخرين؟ ونتصيّد لهم ما يقومون به دون رحمة ولا شفقة، وخاصة مع الأشخاص الذين فى خلاف معنا. لذلك يجب علينا أن نحتمل ونقبل عيوب الآخرين، ونسعى دائماً لإصلاح ذاتنا قبل غيرنا، كما يجب علينا أن نتوقف عن الحكم القاسى والظالم على الناس، وفى اللحظة نفسها نمدح أنفسنا معتبرين ذاتنا أفضل من الجميع. كل هذا سينجينا من الوقوع فى الرياء والكبرياء ودينونة الآخرين. كم من المرات التى تسببنا فيها بأذى للغير عندما تعاملنا معه بحدّةٍ وحكم قاسٍ؟ وكم من المرات التى تسببنا فيها بضرر الآخرين لعدم توعيتهم أو مساعدتهم أو تقديم المثل الصالح لهم؟ فالإنسان الصالح والطيب يسعى دائماً إلى النظر فى عيوبه ليتجنبها ويتخلّص منها، ثم يقوم بمساعدة الآخرين ليصيروا أفضل مما قبل. هناك الأشخاص الذين يتحدّثون وينصحون بأعمالهم الحسنة، دون أن يتفوّهون بكلمة واحدة، معتبرين هذا الواجب مسئولية كبيرة على عاتقهم. لذا يجب علينا ألا ندين أو نحتقر تصرفات الناس، لأننا كثيراً ما نجهل الدوافع التى أدت إليها، كما أننا لا نعلم النتائج الإيجابية البعيدة التى تقدّمها العناية الإلهية لهم. إذاً.. كل إنسان منّا فى استطاعته سماع صوت قلبه الرحيم، ليعامل به الآخرين ويساعدهم على القيام برسالتهم فى الحياة على أكمل وجه، وأن يقوموا بتغيير أنفسهم للأفضل، لا أن يتركهم ينغلقون على ذاتهم بسبب ما يتعرّضون له من برودة وجفاء وسوء معاملة ومَثَل سيئ. ما أجمل أن يتحلّى الإنسان بالمبادئ والأخلاق قبل أن ينادى بها، حتى لا يصبح أضحوكة أمام الآخرين الذين يسمعون منه النصائح الرائعة، ويكتشفون تصرفاته المريبة، وخاصة يجب على الوالدين أن يكونا قدوةً صالحة أمام أبنائهما، حتى يكون لكلماتهما تأثير واضح وقوى. إن اللطف واللين والرحمة والحنان تجتذب القلوب، وتطفئ الأحقاد، وتنشر المحبة والود والفرح بين الجميع، ومِنْ ثم سيتغيّر الإنسان للأفضل. ونختم بكلمات القديس فرنسيس دى ساليس: «إن الأشخاص الذين يتسامحون مع أنفسهم عندما يخطئون، نجدهم فى غاية القسوة مع الآخرين».