صفية «الدُّرة الشريفة».. الأهالي عن مسجدها: تحفة معمارية ونحكي قصته للأجيال الجديدة

كتب: أحمد ماهر أبوالنصر

صفية «الدُّرة الشريفة».. الأهالي عن مسجدها: تحفة معمارية ونحكي قصته للأجيال الجديدة

صفية «الدُّرة الشريفة».. الأهالي عن مسجدها: تحفة معمارية ونحكي قصته للأجيال الجديدة

فى نهاية شارع مستقيم وممتد لمسافة طويلة يقع مسجد الملكة صفية فى حى الجبانية بشارع محمد على بمنطقة الدرب الأحمر فى القاهرة، وللوصول لتلك التحفة المعمارية لا بد من الترجل على القدم نظراً لضيق الشوارع الموصلة إليه من ناحية «السيدة عائشة».. أهالى المنطقة المحيطة به يعرفونه جيداً على الرغم من كونه أصبح أثراً مهجوراً لا صلاة فيه ولا طقوس دينية تقام بداخله، ويقدرون قيمته التاريخية الكبيرة التى تتمثل فى كونه يُعد ثالث المساجد العثمانية فى مصر بعد جامع سليمان باشا فى القلعة وسنان باشا ببولاق. سكان المنطقة يعلمون جيداً قيمته ويحافظون على محيطه نظيفاً، فى محاولة منهم لتركه للأجيال القادمة كما هو تحفة معمارية قائمة بذاتها وسط كتلة خرسانية من البيوت التى تحيط به من كافة الجهات وتقترب منه بشدة من الجهة الخلفية له، التى لا يوجد بها أبواب للدخول كما هو متعارف عليه فى المساجد الكبيرة، وهو ما يميز المسجد عن غيره من المساجد الأخرى الشبيهة به.

بالقرب من المسجد كان الجميع منشغلون بالعمل داخل ورش النجارة الخاصة بهم، والتى تميز المنطقة لكثرتها وانتشارها فى محيط المسجد، إلى جانب تلك الورش، أمام باب المسجد الرئيسى تعمل ورش أخرى فى تجارة «الخردة» وعلى الرغم من كون المسجد مغلقاً منذ سنوات عديدة لا يحصيها السكان فإن الأهالى والتجار يدركون قيمته التاريخية ويتمنون يوماً أن تعود الصلاة إلى ساحته مرة أخرى ويتمكنوا من ممارسة طقوسهم الدينية داخله. هذا حلم تمناه كثيراً أحمد عماد، عامل بورشة نجارة مقابلة للمسجد، وأحد شباب المنطقة، ويشير إلى أنه منذ طفولته يرى المسجد مغلقاً، وعلى الرغم من ذلك لم يجرؤ أحد على العبث به أو محاولة اقتحامه لمعرفة ما بداخله، وهو ما يفسر وعى السكان بقيمته التاريخية والأثرية كونه شاهداً على روعة الهندسة المعمارية وقدرتها الكبيرة على التعبير الصادق عن تقدم العصر وازدهاره ونقل مهارة الحرفيين إلى الأجيال القادمة.

ويقول مصطفى عماد، أحد سكان المنطقة، إنه لا أحد يمكنه الاقتراب من المسجد بسوء، كونه علامة مميزة للمنطقة، والجميع يعمل على الحفاظ عليه: «مفيش عيل يقدر يقرّب من المسجد أو يكتب عليه لأننا بنربى عيالنا على احترام تاريخنا، والمسجد لوحده تاريخ مهم ولازم نحافظ عليه وتحفة معمارية بتميزنا عن غيرنا، ومعروف من سنين إن الدرب الأحمر فيه عشرات المساجد الأثرية».

ويؤكد «عماد» أنه كانت هناك لوحة تذكارية ثمينة موجودة على الباب الأوسط للمسجد مدون عليها بخط جذاب جملة «أنشأ هذا الجامع المبارك المعمور بذكر الله تعالى صاحبة الخيرات الدرة الشريفة والدة المرحوم مولانا السلطان محمد خان طاب ثراه على يد فخر الخواص المقربين مولانا إسماعيل أغا الناظر الشرعى على الوقف المذكور»، ولكنه لم يعد يرى تلك اللوحة منذ سنوات بسبب عوامل الطقس والتعرية التى أثرت عليها بشكل كبير وطمست معالمها.

الشىء الجميل فى المسجد هو أنه يتسم بالبساطة فى التكوين إلى جانب رقة التشكيل، وهناك شىء بديع بالمسجد يزين الحوائط من الخارج وكذلك من الداخل، وهو تلك الزخارف الموجودة فى كل حجر من الأحجار التى يتكون منها المسجد بحسب «عماد» الذى كان قد دخله فى طفولته ورأى العديد من الزخارف البديعة التى لها القدرة على جذب الأنظار إليها فور رؤيتها مباشرة، وخاصة الأعمال الفنية الموجودة فى جوف المحراب والنوافذ السفلية فى حائط القبلة: «من جمال الزخارف الإسلامية المميزة للمسجد تحب تصلى فيه أكتر من مرة وترجع له تانى»، ويتابع: «وأنا صغير كنت بدخل أصلى مع جدى دايماً فى المسجد لحد ما اتقفل وقالوا هيترمم، الكلام ده من سنين، أنا نفسى مابقتش قادر أفتكر الكلام ده من كام سنة، ورغم إنى قرّبت على الـ90 إلا إنى لسه فاكر جمال وروعة المسجد من الداخل وبتمنى قبل ما أموت أدخل أصلى فيه مرة تانية».

معلومات قليلة يعرفها السكان عن هذا المسجد، منها أن الملكة «صفية» هى زوجة السلطان مراد الثالث، وأنها اعتنقت الإسلام قبل أن تتعرف على زوجها السلطان وتقربت منه خلال فترة من الفترات، وهو ما دفعه إلى طلب الزواج منها، وعلى الرغم من كون المسجد يحمل اسمها فإنها لم تحضر يوماً إلى مصر، ولكن قلبها كان دوماً معلقاً بالمحروسة طوال حياتها، وهو ما دفعها إلى إنشاء مسجد يحمل اسمها فى منطقة الدرب الأحمر التى تزخر بوجود عشرات المساجد الأثرية، كما يتحدث السكان أيضاً، ومن بينهم محمد عيسى، مدرس تاريخ، وأحد أبناء المنطقة، عن الأهمية التاريخية للمسجد، يقول إنها تنبع من كونه منسوباً لسيدة، وهو ما يُبرز دور المرأة فى الحضارة الإسلامية، لذلك اهتم العثمانيون بتشييد المساجد التى تحمل أسماء نساء: «هو مسجد للصلاة، وعلى الرغم من إنه متسجل باسم الملكة صفية إلا إنه مافيهوش قبر لها ولا أى قبر لأحد من أولادها أو أحفادها، وده لأن الملكة صفية مازارتش مصر أصلاً، وكلفت الخادم بتاعها ببناء المسجد، والروايات كلها بتشير إلى إنها مدفونة فى تركيا».

ومن بين الروايات التى يرددها أهالى المنطقة حول الملكة «صفية» أن والدها كان حاكماً شهيراً، وكانت هى تحب السفر والترحال، ما كان سبباً فى وقوعها فى الأسر بعدما قامت برحلة بحرية على متن سفينة مع بعض السيدات النبيلات، وأثناء عودتها فى طريقها إلى والدها الذى كان يحكم إحدى الجزر النائية تعرضت السفينة للقرصنة البحرية، وكان عمرها فى ذلك الوقت 14 عاماً، وبيعت وأُلحقت بالقصر الملكى لتبدأ من هنا رحلتها.

بمحيط المسجد الذى يُعد تحفة معمارية وسط منطقة الدرب الأحمر التى تشتهر بوجود الكثير من المساجد الأثرية يلهو الأطفال على سلالم الجامع التى تُبهر الناظرين لجمال تصميمها، وهو ما يدفع الأطفال إلى الصعود بشكل متكرر عليها للعب واللهو بهدف المتعة والتعرف على المسجد لا بهدف العبث به، وعلى الرغم من كون المسجد يُعد مهجوراً فإنه لا أحد من هؤلاء الأطفال يعبث به بالكتابة على الجدران كما يحدث فى مناطق عديدة بها مساجد مهجورة. كما يحترم السكان الآثار الموجودة فى المنطقة ويعملون على الحفاظ علها حتى وإن لم تكن خاضعة للرقابة، وذلك لكونهم يعلمون جيداً أن وجود تلك المساجد فى المنطقة يمنحهم قيمة إضافية وأهمية تاريخية ويجعل من منطقتهم مكاناً خالداً فى كتب التاريخ.


مواضيع متعلقة