القوة الناعمة القانونية.. قانون الزواج بالمغتصب

فى السادس من شهر المحرم 1420هـ الموافق الثانى والعشرين من شهر أبريل سنة 1999م، صدر القانون المصرى رقم (14) لسنة 1999 بإلغاء المادة (291) من قانون العقوبات. وغنى عن البيان أن المادة الملغاة كانت تقرر مانع عقاب لمصلحة الجانى فى جريمة الاغتصاب إذا تزوج بمن اغتصبها زواجاً شرعياً.

ومنذ بضعة أيام، وتحديداً فى يوم الاثنين الثامن من شهر ذى الحجة 1444هـ الموافق السادس والعشرين من شهر يونيو 2023م، صدر القانون البحرينى رقم (7) لسنة 2023 بإلغاء المادة (353) من قانون العقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم (15) لسنة 1976م. وقد نشر هذا القانون بالجريدة الرسمية فى ذات يوم صدوره، ويسرى اعتباراً من اليوم التالى لتاريخ نشره فى الجريدة الرسمية. ولعل من المفيد فى هذا الصدد الإشارة إلى أن القانون المصرى رقم (14) لسنة 1999 كان ينص بدوره على أن يعمل به من اليوم التالى لتاريخ نشره. ويدلل ذلك بوجه جلى على مدى التطابق بين القانون المصرى رقم (14) لسنة 1999م والقانون البحرينى رقم (7) لسنة 2023م، وذلك على الرغم من الفارق الزمنى بينهما، الذى يصل إلى ما يربو على أربعة وعشرين عاماً.

وعلى كل حال، وأياً كان السبب وراء النص على العمل بالقانون من اليوم التالى لتاريخ نشره، ولإلقاء الضوء على موضوع هذا القانون، تجدر بنا الإشارة فى هذا الصدد إلى أن المشرع البحرينى يجرم مواقعة أنثى بغير رضاها، أى اغتصابها، مقرراً لها فى صورتها البسيطة عقوبة السجن المؤبد. وتكون العقوبة الإعدام أو السجن المؤبد إذا كانت المجنى عليها لم تتم السادسة عشرة من عمرها. ويفترض عدم رضا المجنى عليها إذا لم تتم الرابعة عشرة (المادة 344 من قانون العقوبات البحرينى، الصادر بالمرسوم بقانون رقم (15) لسنة 1976م، معدلة بموجب المرسوم بقانون رقم 1 لسنة 1986م). ويجرم المشرع البحرينى مواقعة الأنثى التى أتمت الرابعة عشرة ولم تتم السادسة عشرة برضاها، مقرراً لها عقوبة السجن مدة لا تزيد على عشرين سنة. وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تزيد على عشر سنوات إذا كانت الأنثى التى تمت مواقعتها قد أتمت السادسة عشرة ولم تتم الحادية والعشرين، وكان ذلك برضاها (المادة 345 من قانون العقوبات، معدلة بموجب المرسوم بقانون رقم 7 لسنة 1985م). والنصوص السابقة تتعلق بجريمة الاغتصاب، أو على حد تعبير النص القانونى مواقعة أنثى بغير رضاها، سواء كان عدم الرضاء حقيقياً كما هو الشأن بالنسبة للأنثى البالغة، أو كان انعدام الرضاء مفترضاً، كما هو الشأن فى حالة مواقعة أنثى لم تتم الحادية والعشرين من عمرها. أما فيما يتعلق بجريمة هتك العرض، فإن المشرع يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات من اعتدى على عرض شخص بغير رضاه. وتكون العقوبة السجن إذا كان المجنى عليه لم يتم السادسة عشرة. ويفترض عدم رضا المجنى عليه إذا لم يتم الرابعة عشرة (المادة 346 من قانون العقوبات، معدلة بموجب المرسوم بقانون رقم 7 لسنة 1985م). ويعاقب بالحبس من اعتدى على عرض شخص أتم الرابعة عشرة ولم يتم الحادية والعشرين برضاه (المادة 347 من قانون العقوبات، معدلة بموجب المرسوم بقانون رقم 7 لسنة 1985م). وفيما يتعلق بجريمة الفعل المخل بالحياء، يعاقب المشرع البحرينى بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة التى لا تجاوز مائة دينار من أتى علناً فعلاً مخلاً بالحياء. ويعاقب بالعقوبة ذاتها من ارتكب فعلاً مخلاً بالحياء مع أنثى، ولو فى غير علانية (المادة 350 من قانون العقوبات). وأخيراً، يعاقب المشرع البحرينى بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو بالغرامة التى لا تجاوز عشرين ديناراً من تعرض لأنثى على وجه يخدش حياءها بالقول أو بالفعل فى طريق عام أو مكان مطروق. ويعاقب بالعقوبة ذاتها إذا كان التعرض بطريق التليفون (المادة 351 من قانون العقوبات).

غير أن المشرع البحرينى أورد نصاً عاماً يرتب أثراً على زواج الجانى بالمجنى عليها فى جرائم الاغتصاب وهتك العرض والفعل المخل بالحياء مع أنثى والتعرض لأنثى على وجه يخدش حياءها، مقرراً إعفاء الجانى من العقاب أو وقف تنفيذ الحكم الصادر بحقه مع إزالة آثاره الجنائية. فوفقاً للمادة (353) من قانون العقوبات البحرينى «لا يحكم بعقوبة ما على من ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها فى المواد السابقة إذا عُقد زواج صحيح بينه وبين المجنى عليها. فإذا كان قد صدر عليه حكم نهائى قبل عقد الزواج يوقف تنفيذه وتنتهى آثاره الجنائية». وينطبق هذا الحكم على الجرائم المنصوص عليها فى الفصل الثانى المعنون «الاغتصاب والاعتداء على العرض» (المواد من 344 إلى 353).

ولا وجود لمانع العقاب سالف الذكر فى حالة ارتكاب جريمة خطف الأنثى، المنصوص عليها فى المادة 358 من قانون العقوبات البحرينى، والتى تنص على أن «يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات من خطف شخصاً بنفسه أو بواسطة غيره. وتكون العقوبة السجن إذا كان المجنى عليه أنثى. وإذا وقع الخطف بالحيلة أو توافرت فيه إحدى الحالات المبينة فى المادة السابقة عد ذلك ظرفاً مشدداً». فلا يقرر المشرع مانع عقاب الخاطف إذا تزوج بمن خطفها زواجاً شرعياً. غير أن التساؤل يثور فى حالة ما إذا قام الخاطف بمواقعة الأنثى المختطفة بغير رضاها، ثم تزوجها زواجاً شرعياً. وقد يكون قصد الخاطف من ارتكاب جريمته هو التمكن من مواقعة الأنثى المختطفة. ففى هذه الحالة تتعد الجرائم المرتكبة من الجانى تعدداً مادياً. ونرى امتداد مانع العقاب إلى هذه الحالة أيضاً. إذ تتحقق علة مانع العقاب فى هذه الحالة أيضاً. أما إذا وقفت الجريمة عند حد الخطف، دون أن يعقبها مواقعة للأنثى المختطفة، فإن علة مانع العقاب لا تتحقق فى هذا الفرض. ومع ذلك، فإن وضع الجانى فى حالة ارتكاب جريمة الخطف فقط يبدو أسوأ من وضع الخاطف الذى يرتكب جريمتى الخطف والاغتصاب.

ورغم أن القانون البحرينى رقم (7) لسنة 2023م قد جاء على غرار مثال سابق، وهو القانون المصرى رقم (14) لسنة 1999م، فإن صدور القانون البحرينى قد جاء بعد مخاض عسير، استمر لما يقارب السبع سنوات. بيان ذلك أن المادة 353 من قانون العقوبات البحرينى أثارت جدلاً بين النواب والحكومة والجمعيات النسائية والحقوقية، كونها تسقط العقوبة عن الجانى المغتصب إذا تزوج الضحية، الأمر الذى دفع مجموعة من النواب إلى التقدم باقتراح لإلغائها، وسط تأييد نسائى، وتحفظ حكومى وحقوقى.

ففى منتصف العام 2016م، وافق مجلس النواب على اقتراح بقانون بإلغاء المادة سالفة الذكر من قانون العقوبات. ولكن، وفى السابع من شهر نوفمبر 2016م، قرر مجلس الوزراء إعادة الاقتراح لمجلس النواب على هيئة مشروع بقانون، حيث ظل المشروع فى أروقة لجنة الشئون الخارجية والدفاع والأمن الوطنى فى المجلس. وكانت اللجنة وافقت فى فصل تشريعى سابق على إلغاء المادة، ثم تراجعت عن قرارها، وأوصت فى تقرير آخر بالاكتفاء بتعديل على المادة يعطى السلطة التقديرية للقاضى، وفقاً لكل حالة على حدة.

ومن جانبه، أيد المجلس الأعلى للمرأة فى مملكة البحرين إلغاء المادة، مستدلاً بأن مؤسسات المجتمع المدنى المعنية تعتبرها وسيلة سهلة يمكن للجانى استخدامها للتملص من العقوبة أو الملاحقة الجنائية، حيث تمنح له هذه الإمكانية بمجرد أن عقد زواجاً بالضحية، وترى هذه المؤسسات أن القانون قد تحول إلى أداة عقاب إضافية للضحية بدل أن يحميها، فيما منح المعتدى إفلاتاً من العقاب «لتكرمه» بقبول الزواج من المعتدى عليها. وبدوره، قال المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى مملكة البحرين إنه لا يرى مانعاً من إلغاء المادة.

وفى المقابل، ورداً على مشروع القانون المقترح من مجلس النواب البحرينى بحذف المادة (353) من قانون العقوبات، دعت الحكومة المجلس لإعادة النظر فى مشروع القانون، طالبة من المجلس الاكتفاء بتعديل المادة بإضافة جملة تنص على أن هذه المادة لا تشمل حال تعدد الجناة.

وفى تعليقها على المشروع، بينت الحكومة أن «المادة 353 جاءت لصون شرف الأسرة ودرء ما قد يمس شرف العائلة من أقاويل تؤثر فى نظرة المجتمع للمجنى عليها ولأسرتها، خاصة إذا تمت مواقعة الأنثى المجنى عليها برضاها وحملت من الجانى، وأيضاً حفاظاً على حق الطفل فى النسب والهوية وهى حقوق أصيلة نصت عليها اتفاقية حقوق الطفل، فضلاً عن أن هذه المادة قد جاءت كذلك للتأكيد على مبدأ الردع حال عدم قبول المجنى عليها بالزواج بالجانى». وذكرت الحكومة حينها أن «المادة بوضعها الحالى تنتج إشكالية عملية حال تعدد الجناة، إذ كيف وعلى أى أساس يتم اختيار أحد الجناة من قبل المجنى عليها للزواج به، كما أنه من غير المتصور أن تسقط العقوبة عن أحدهم بسبب زواجه من المجنى عليها زواجاً صحيحاً فى حين يحكم على باقى الجناة بالعقوبة رغم انقضاء أثرها بالزواج من أحد الجناة، ومن ثم فإنه يمكن تفادى ذلك بتعديل المادة كى لا يكون زواج أحد الجناة مانعاً من عقاب الآخرين، ليكون نص المادة بعد التعديل». وخلصت الحكومة إلى أن «النص الحالى للمادة وما سبقه من عقوبات يرسخ المبادئ المنصوص عليها فى الدستور البحرينى للأسرة ولا يخالف المبادئ المنصوص عليها فى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة «السيداو» ويحقق الأهداف الأساسية للتجريم، ولا يخل بسياسة العقاب من ردع خاص وعام، فالإبقاء على النص المذكور أولى لتحقيق المصلحة المستهدفة منه مع تعديله بإضافة العبارة المذكورة، وبذلك يتحقق الغرض الذى ابتغاه المشرع البحرينى من هذه المادة وهو الحفاظ على كيان الأسرة فى المجتمع البحرينى، وليظل أمر تقدير الاستمرار فى الشكوى من عدمه فى هذه الحالة بيد المجنى عليها وحدها باعتبارها المتضررة والأولى بالرعاية والاهتمام على ما ترغب هى فيه وليس على ما يملى عليها غيرها».

واتساقاً مع التوجه الحكومى، أوضح ممثلو وزارة الداخلية أن «قانون العقوبات منذ إقراره والعمل به فى العام 1976 حتى الآن قانون مترابط فى بنوده والتغيير فيه من غير أن تكون هناك مصلحة واضحة لا مبرر له، والإبقاء على المادة هو الأصوب، فمتى ما واقع شخص أنثى فى ظل هذه المادة فإن الزواج منها لا يكون إلزامياً إلا بموافقة المجنى عليها ووليها، الأمر الذى يؤكد عدم الحاجة لإلغاء المادة 353 من قانون العقوبات لأن زواج المجنى عليها هو فى حقيقته ميزة للمرأة وليس تمييزاً ضدها، ومن شأن عقد قران الجانى بالمجنى عليها برضاها ورضا وليها تقليل الضرر الواقع عليها، لأنه فى حال الاغتصاب سينتج عن هذه الجريمة عواقب كفض البكارة بالإضافة إلى الحمل، وقد ترغب الأنثى أو ولى أمرها فى تقليل الخسائر بعقد شرعى لتقليل الأضرار الناتجة جراء ذلك، وهذه المادة وُضعت لدفع الضرر عنها، ومن خلال تتبع الكثير من الوقائع فى هذه الجرائم ثبت أن جدوى الإبقاء عليها أفضل من إلغائها وهى تصب فى مصلحة المجنى عليها إذا ارتضت ذلك».

وكذلك، استحسنت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان الإبقاء على المادة كما وردت فى أصل القانون، «ما دام عقد الزواج المبرم بين الجانى والمرأة المجنى عليها قد تحقق بكامل رضاها التام ومن دون إكراه، فضلاً عن أن ذات المادة قد استلزمت لعدم إيقاع العقوبة المقررة على الجانى ضرورة إبرام عقد زواج صحيح مكتمل الأركان والشروط بين الطرفين، وهو الأمر الذى ينسجم والغايات التى أرادها المشرع من هذه المادة» (راجع: حسن السترى، «المادة 353» من قانون العقوبات.. مثيرة للجدل منذ 6 سنوات، جريدة الوطن، البحرين، الأحد 4 ديسمبر 2022م).

وبعد سبعة أعوام من الجدل المثار فى أروقة مجلس النواب والحكومة ومؤسسات المجتمع المدنى البحرينية حول المادة (353)، انتصر أخيراً الاتجاه الداعى إلى إلغاء المادة، حيث صدر القانون البحرينى رقم (7) لسنة 2023 بإلغاء المادة (353) من قانون العقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم (15) لسنة 1976م.

وكما سبق أن قلنا، فقد كان للمشرع المصرى فضل السبق فى هذا الشأن، حيث صدر القانون المصرى رقم (14) لسنة 1999م بإلغاء المادة (291) من قانون العقوبات، المنشور بالجريدة الرسمية فى العدد (16) تابع فى الثانى والعشرين من أبريل 1999م، والذى ألغى مانع العقاب الذى كان مقرراً لمصلحة الخاطف، إذا تزوج بمن خطفها زواجاً شرعياً. أما فيما يتعلق بجريمة الاغتصاب أو مواقعة أنثى دون رضاها، فلم يرد من الأصل مانع عقاب فى شأن المغتصب الذى يتزوج بمن اغتصبها زواجاً شرعياً. ومن ثم، فإن الجانى فى هاتين الجريمتين، أى الخطف والاغتصاب يعاقب، ولو تزوج بمن خطفها أو تزوجها زواجاً شرعياً. ومع ذلك، ووفقاً لرأى بعض الفقه، للقاضى أن يعتبر الزواج اللاحق بين الجانى والمجنى عليه ظرفاً مخففاً للعقوبة.

وعلى حد علمنا، فإن القانون المصرى رقم (14) لسنة 1999م هو أسبق التشريعات العربية فى هذا الاتجاه، حيث تبعته العديد من قوانين العقوبات العربية فى هذا الشأن، الأمر الذى يؤكد أن التشريعات المتطورة تشكل أحد عناصر القوة الناعمة لأى مجتمع من المجتمعات. هذه هى مصر كما نريدها نموذجاً ورائداً للدول الأخرى. والله من وراء القصد.