«السوشيال ميديا».. والفساتين الثلاثة

لـ "السوشيال ميديا" المصرية طبائع غريبة وأسلوب مميز؛ فهي قادرة دوماً على مفاجأة المستخدمين والمحللين والخبراء؛ إذ يمكنها عادة أن تختار نطاق اهتمامات مباغتة ومخاتلة، وهي عندما تفعل هذا فإنها لا تنطلق من قاعدة أو معيار معين، وإنما تفعله وفق "منطقها"، الذي يبدو أنه يفتقد أي منطق.

وفي كل صباح، يصحو المؤثرون الجدد، ومعهم لاعبو كرة القدم ومحللوها، وكثير من الفنانين والمتطفلين على الفن، وبعض الإعلاميين، ليفكروا في طريقة لجذب اهتمام "السوشيال ميديا"، واحتلال قوائم "التريند"، وفي أحيان عديدة يخفقون، بينما تستدعي تلك الوسائط النافذة والرائجة حادثة معينة، لتجعل من بطلها نجماً، تشغل به المجال العام لأيام، وربما لأسابيع طويلة.أما جديد "الفضاء السوشيالي" في الشهر المنصرم، فلم يكن سوى واقعتي "الفستان الأزرق" و"فستان النقود"؛ وفي الواقعة الأولى كانت البطلة، كما تفيد الإفادات المتداولة عبر الأقنية "التقليدية"، طالبة جامعية من الدقهلية، رقصت بـ "جرأة" خلال فرح إحدى قريباتها.

وفي الواقعة الثانية كانت البطلة طالبة جامعية من سوهاج، احتفلت بتخرجها، بينما ترتدي فستاناً من النقود أعده لها والدها احتفاء بنجاحها، وفي الحالتين صارت كل من الفتاتين "نجمة" على مواقع "التواصل الاجتماعي"، حيث أدلى الملايين بالتعليقات والانطباعات والانتقادات والشتائم، أو أشادوا وعبروا عن التضامن.

يذكرنا الفستانان الشهيران بفستان آخر طبقت شهرته الآفاق؛ وهو فستان ارتدته فنانة في الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي، قبل خمس سنوات، وما زالت ذكراه ترد في محافل عديدة، بوصفه "فستاناً من دون بطانة"، حول الفنانة المذكورة إلى بطلة على "السوشيال ميديا"، قبل أن تتلقف الأقنية "التقليدية" الحدث، ويظل عنواناً رئيسياً يشغل المجال العام لأيام طويلة.

يلقي تناول وسائط "التواصل الاجتماعي" لحوادث الفساتين الثلاثة الضوء على العديد من المشكلات؛ أولاها فكرة إرساء الأولويات الخاطئة، التي تحرف المجتمع عن قضاياه المهمة، وتأخذه إلى قضايا هامشية وربما "تافهة"، وثانيتها مسألة التنمر والتصيد وانتهاك كرامة الناس والتأثير الممجوج في سلامهم الاجتماعي ونمط حياتهم، وثالثتها تعطيل مجال التواصل الحيوي المُتاح للجمهور عن الوفاء بأهم مقاصده، وتأميمه لصالح نزعات وممارسات عبثية ومأفونة.

وفي محاولة لفهم هذا الانحراف الخطير في أداء مجال التواصل "السوشيالي"، أفادت بعض الدراسات الأكاديمية أن الإعلام يلعب أدواره التأثيرية في تشكيل الرأي العام تجاه القضايا والتطورات المجتمعية، من خلال عمليات مُحددة، تأتي على رأسها عملية تشكيل إطار القضايا الحيوية.وفي عملية تشكيل إطار القضايا، قد تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على قضايا بعينها، وتحجبه عن قضايا أخرى، من دون النظر إلى مدى أهمية تلك القضايا في سلم أولويات الجمهور.

ويعتقد باحثون إعلاميون أن قيام الإعلام بإغفال قضايا مهمة، أو منحها مساحات وأوقات عرض لا تتناسب مع مدى أهميتها المفترضة، يؤدي تلقائياً إلى تقليل الاهتمام بها من قبل قطاعات الجمهور.ومن ناحية ثانية، فإن وسائل الإعلام تقوم بعرض القضايا المختلفة على جمهورها بشكل مرتب تبعاً لأهميتها، ووفق نظرية "تحديد الأولويات" (Agenda Setting)، فإن "ثمة علاقة إيجابية بين ما تلح عليه وسائل الإعلام في رسائلها، وبين ما يراه الجمهور مهماً"، ويرى بعض الباحثين أن تلك النقطة بالذات تمثل مكمن أهم تأثير لوسائل الاتصال؛ أي "مقدرتها على ترتيب أجندة الجمهور بخصوص القضايا والموضوعات المطروحة".

ورغم بعض التشكيك بقدرة تلك النظرية على توضيح التأثير المباشر لوسائل الإعلام على "الخرائط الإدراكية والمعرفية واتجاهات الجمهور حيال القضايا محل الاهتمام"، فإن أحداً لا يدحض وجود روابط بين التعرض لوسائل الإعلام من جهة، واتجاهات الجمهور نحو قضايا معينة ومدى إدراكه لها من جهة ثانية".

ظل هذا التفسير منطقياً وشائعاً في عصر وسائل الإعلام الجماهيرية، وكان بمقدورنا أن نتهم السلطة الاستراتيجية القائمة على إدارة المشهد الإعلامي بالتلاعب لتحقيق أغراضها عبر صياغات مُغرضة وغير موضوعية للأجندات، يتم تسليط الضوء فيها على قضايا معينة بغرض التحكم في اهتمامات الجمهور وترتيب أولوياته.لكن في عصر وسائط التواصل الاجتماعي، اختلس الجمهور دور "حارس البوابة" (Gate Keeper)، وبات في الموقع الذي يسمح له بالتحكم في إطار القضايا وإرساء الأجندة، وهو عندما حظي بهذه المكانة لم يكن أفضل من الساسة المغرضين ومالكي وسائل الإعلام ذوي المصالح المشبوهة، بل هو راح يُفرط في إرساء الأولويات الخاطئة والمثيرة للشفقة والاستياء.

وبدلاً من أن يُظهر "الفضاء السوشيالي" قدراً مناسباً من المسؤولية تجاه القضايا والأولويات المُهمة، راح يقوض الخريطة الإدراكية لمستخدميه، ويقنعهم أن القضة الأبرز على قائمة الأولويات الوطنية تتجسد في ثلاثة فستانين؛ أولها من دون بطانة، وثانيها أزرق ترقص صاحبته بـ "جرأة"، وثالثها صُنع من بضعة آلاف من الجنيهات، في احتفال متواضع بتخرج طالبة.

وفي هذا الصدد، يمكن القول إن المجتمع المصري أبدع طريقة مميزة في صناعة الأولويات العمومية، وأن تلك الطريقة تنتظم في مسار محدد، أضحى بمنزلة أنموذج عمل مُعتمد على نطاق كبير. وهو أمر يجب أن نخضعه لمزيد من الدرس والبحث، لأن عواقبه قد تكون وخيمة.