اللاذقية تلملم جراحها بعد 28 يوما من «الألم والدموع»

كتب:  أحمد الأمير

اللاذقية تلملم جراحها بعد 28 يوما من «الألم والدموع»

اللاذقية تلملم جراحها بعد 28 يوما من «الألم والدموع»

انتهت أعمال البحث عن الناجين تحت أنقاض الزلزال فى مدينة اللاذقية، المدينة المكتظة بالسكان والمعروفة بسحرها وجمالها، إذ تداعب حيطانها نسمات الجبال القريبة، والمعروفة أيضاً بشوارعها الشاهدة على الزمن وذكريات الماضى والحاضر.

حصيلة خسائر المدينة: عدد الضحايا 805 أشخاص والإصابات 1131 حالة و900 مبنى متضرر

وخلال الأيام الماضية واصلت الجهات المعنية ترحيل ركام المبانى، وبلغ عدد الضحايا 805 متوفين، والإصابات 1131 حالة، وتبين وجود نحو 900 مبنى متضرر بشكل كامل بين 23954، وسيتم عرضها على لجنة السلامة الإنشائية لاتخاذ القرار حولها، إما بالتدعيم أو الهدم، و3097 مبنى بحاجة إلى تدعيم، ونحو 11198 مبنى بحاجة إلى أعمال صيانة وترميم، إضافة إلى 8759 من المبانى التى لم تتأثر بالزلزال.

«شذى»: كانت الأرض مخيفة أسفل أقدامنا وكأننا نمشى على الورق

قبل إعلان غرفة تجارة دمشق عن قيمة تبرعات التجار استجابة للمبادرة التى أطلقتها الغرفة حول المتضررين فى اللاذقية وحلب ووصلت إلى نحو 4.5 مليار ليرة سورية حتى الآن، قررت شذى محمد، المقيمة فى اللاذقية، مع مجموعة من السيدات ألا يقفن مكتوفات الأيدى، هكذا بدأت مبادرة شذى التى قدمت مع رفيقاتها يد العون إلى العائلات المتضررة فى اللاذقية، وبدأن التحضير منذ اليوم الأول للكارثة، وأطلقن مبادرة لجمع التبرعات وتوزيع الطعام بالتزامن مع افتتاح المحافظة 29 مركز إيواء بشكل رسمى، يقيم فيها أكثر من 2267 عائلة، مع وجود عائلات فضلت السكن مع أقاربها أو انتقلت للعيش بالريف.

خلال الأيام الماضية واجه سكان اللاذقية، الواقعة على البحر المتوسط، من أثر الزلزال، وقائع تكشف عنها، لـ«الوطن»، المتطوعة شذى محمد التى استيقظت على صوت «شو ياللى عم بيصير»... «يا رب الطف».. «كانت الأرض مخيفة أسفل أقدامنا وكأننا نمشى على الورق، الصرخات تعلو من كل بناية، تهتز، وفجأة يتوقف صراخ ساكنيها، دقائق أعادتنا إلى ذاكرة مليئة بالخوف والحزن»، هكذا يصف جمال كيالى، 64 عاماً، المقيم فى منطقة جبلة السورية، مشاهد الزلزال فى لحظاته الأولى.

وأكد أنها لم تقتصر على انهيار المبانى المحيطة وهو يشاهد بذهول الكتل الأسمنتية تتساقط واحدة تلو الأخرى مع فجر يوم الاثنين 6 فبراير.

وبعد دقائق من وقوع الزلزال المدمر الذى شهدته سوريا بدأت خيوط الضوء تظهر وبدأت ملامح الكارثة تلقى بظلالها فتوزعت الأضرار على سكان الأحياء، عائلات كاملة استيقظت من نومها وهرعت من صوت الهزات القوية، وبعض هذه الأسر اندثرت تحت الأنقاض ولم يخرج منها أحد. فى تلك اللحظات، حتى صوت الأنين انطفأ، واختفى بسرعة البرق صوت تلك السيدة التى تقطن فى «مبنى الريحاوى» الشهير بمنطقة جبلة فى محافظة اللاذقية.

سنوات اعتدت أن أسمع فيها صوت جارتى القاطنة فى الطابق الأول من مبنى الريحاوى تتضرع إلى الله كل فجر، سمعت صوتها حتى أيام الحرب تحت القصف، صوتها ترافق مع الموت والنزوح والتشريد والألم، وكأن صوتها يعبر عن أنين هذا الشعب الذى عانى كثيراً، لم يبقَ شىء فى هذه الأرض إلا قهره.

ولا أنسى تلاوتها بصوت عالٍ آيات من سورة البقرة «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَىْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» فى ليلة اشتد فيها القصف، ولا أخفى أن الترتيل كان يُنزل السكينة على قلبى فى لحظات من القهر تكفى العالم بأكمله.

جيران ساكنة مبنى الريحاوى التى عُثر عليها ترتل القرآن تحت الأنقاض: «كان صوتها سكينة إذا اشتدت نيران الحرب.. ووجدناها حاضنة للمصحف»

فى تلك الليلة توضأت فى منزلها، وكعادتها بدأت تتنفل بركعات قبل صلاة الفجر، ثم أمسكت مصحفاً وبدأت فى قراءة القرآن الكريم بصوتها الخافت، ولكن فى هذه اللحظات بدأت جدران المبنى تهتز بقوة ويزداد صوتها قوة معها وصوت من حولها، أما الجيران الذين اعتادوا سماع عذوبة صوتها كل يوم ففى كل مرة يزداد فيها الكرب لم يفكروا سوى فى الهروب، أصوات بكاء أطفالهم كانت تصدح من كل مكان كفيلة بأن تجعلهم يسرعون إليهم للخروج بهم إلى الشارع وسط حالة رعب ووسط هول الدمار فى المدينة الواقعة غرب سوريا.

المشهد كان مختلفاً، ما كنت شاهداً عليه خلال هذه السنوات العشر كنت قادراً على تخطيه أحياناً لكن مشهد الزلزال لا يُنسى لأنك ترى الموت المفاجئ والبطىء من حولك.

تتابعت الزلازل بعد ذلك مرات عدة بفواصل غير منتظمة، بينما كانت السورية «شذى»، 31 عاماً، بين الأهالى، وشققهم داخل المبانى متعددة الطوابق قد هُدمت فى جبلة، وبشىء من خيبة الأمل والحزن أخذ يحكى «العم جمال» عن كواليس ما قبل الكارثة قائلاً إنه يمتلك أحد المحال المقابلة لمبنى الريحاوى الشهير، واعتاد سماع السيدة كل يوم تتلو آيات من القرآن الكريم منذ أيام الحرب، وفى هذا التوقيت المعتاد استيقظت جارته فجر الاثنين لتؤدى صلاة الفجر، وبدأت كعادتها بتلاوة بعض من آيات القرآن الكريم، وفى غضون ثوان سمع صرخات من حوله وفقد النطق والحركة، الصدمة لا توصف، والعوائل فى الشارع وأبناؤهم فى أحضانهم.

تقول «شذى»، المقيمة فى العاصمة السورية دمشق، لـ«الوطن»، نقلاً عن الستينى الذى يمتلك أحد المحلات القريبة من مبنى الريحاوى: «مع أن الرجل لم ينطق بعد سوى ببعض الكلمات يصمت قليلاً وكأنّ الذكرى أرهقته، ينظر إلى الركام أمامه بذهولٍ غريب، ويحاول أن يتابع وهو يحدق فى نقطة تعلو الركام المتكوم بأمتار عدة».

فى الوقت الذى كان الأهالى قد بدأوا فيه بالنبش والبحث عن أقاربهم قبل وصول الآليات الثقيلة وفرق الإنقاذ الخارجية كان صاحب المحل يشير بأصبعه إلى الأعلى ليدعم شرحه بلغة الإشارة، تضيف شذى: «هنا كانت تقطن جارتنا مع زوجها فى أحد الطوابق العليا، وهى الطوابق التى يقال إنها تحمل نسبة خطورة عالية لحظة وقوع الزلازل، ولا ندرى أهى فى عداد الأموات أم الأحياء تحت الأنقاض».

يقف الرجل فى المنطقة المحيطة بمبنى الريحاوى وملامحها قد تغيرت بالكامل، هُدمت مبانيها، وقُتل الكثير من سكانها، أما شوارعها وشواخصها وأحياؤها وأسواقها ومعالمها وطرقاتها فكلها تغيرت بعد الرابعة والربع بقليل من فجر اليوم المشؤوم، ويقول بصوت يكسوه الحزن: «هبط الريحاوى بمن فيه وهبطت معه جارتنا قبل أن يتيح لها الزلزال أن تبدأ صلاتها، لتدخل فى ثوانٍ معدودة ضمن صندوق مفتوح من البلوكات الحجرية، واحدة من يمينها والثانية على شمالها، ثم يغلق عليها الصندوق ببلوكة سقطت من سقف الغرفة التى كانت تجلس بها».

يكمل الجار ودموعه فى عينيه متسائلاً: أين الشقق والبيوت التى كانت فى المنطقة قبل الزلزال؟ أصدقاء طفولتى وذكرياتى وجيرانى، كل هذا اختفى فى غمضة عين. ثم يأخذ شهيقاً عميقاً ويشرح: «بدأت فرق الإنقاذ العمل على انتشالها من بين الأنقاض، حاولنا مراراً وتكراراً إبعاد ما تيسّر من الحجارة قبل أن نصل إليها ونرى المشهد الذى كانت عليه. وكلنا أمل بأن نجدها على قيد الحياة».

تشرح شذى التى ظلت لساعات مع الأهالى فى المنطقة: «وجدت نفسى منغمسة معهم فى الحزن ووجع الروح، ولم أنجح فى النأى بنفسى عن حالة الكآبة والعجز التى أصابت زملائى السوريين».

وتضيف نقلاً عن جيران السيدة: «فى لحظة، وبعد ساعات من البحث عن سكان المبنى، هرعنا ناحية المكان، ووجدناها متكورة فى مساحة مربعة ضمن المكان، لا يمكن لشخص أن يصدق أن هذا المكان يتسع حتى لطفل صغير فكيف بامرأة فى عمرها؟».

وقفت تستمع إلى الجيران يتحدثون عن جارتهم وهى ترتجف فى تلك اللحظة وتكرر سؤالها للحصول على إجابة أسرع: هل هى كانت على قيد الحياة؟ ليثلجوا قلبها بقولهم: «نعم، حتى إنها لم تصب بأى أذى رغم ضيق المكان وصعوبة التنفس، كانت على قيد الحياة وعلى قيد الوضعية التى أخذتها قبل أن تدق الساعة عقاربها على توقيت الرابعة والثلث وتحتضن القرآن بين يديها الاثنتين وترتل بصوت جميل منهك: «وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».

تختتم شذى محمد حديثها لـ«الوطن» قائلة: «الفرق الوحيد بين المشهد قبل الزلزال وبعده أن السيدة لم تكن فى وضعية القراءة، بل وجدناها وهى تضم القرآن إلى صدرها بكل ما سخَّر الله لها من قوة هذا الكون، ربما بنت ضمة القرآن تلك جسراً من نور بينها وبين الحياة، فصبرت وانتظرتنا لننقذها، لتأتى الدموع منى ومن الحاضرين وتنهمر على وقع آخر كمية من الأنقاض ترحّلها شاحنة تغادر إلى منطقة بعيدة بعيدة جداً، ويغلق بذلك كتاب مبنى الريحاوى ويوضع على رف الذكريات المريرة لمأساة 6 فبراير 2032».


مواضيع متعلقة