الكلمة بين «النور».. و«القبور»
يكمن تأثير الكاتب فى صياغة كلمات من «نور» وتفقد الرسالة مصداقيتها إذا ما دفعه التعبير عن فكرة بكلمات من «قبور». أمام كل النُذُر التى أصبحت تهدد السلام العالمى بكل التوابع والتحديات التى تفرضها على المنطقة العربية، تظهر أهمية دور الأصوات والأقلام التى تخاطب الرأى العام عند تفسير آثار كل العواصف التى تجتاح العالم على تفاصيل الحياة اليومية للمواطن العربى.. إلقاء الضوء على أفضل البدائل الاقتصادية لتخفيف الأزمات الطاحنة بعيداً عن مبالغات صيغ التهويل أو التهوين. إثارة التوتر أو التلويح بورقة الفوضى لن تعيد صورة العالم الأمنية والاقتصادية إلى ما كانت عليه قبل عمليات روسيا العسكرية فى أوكرانيا، أو القلق مما ستسفر عنه أجواء التوتر المتصاعدة بين أمريكا والصين.. كما لن تجدى حالة الطمأنة المفرطة فى تجاوز الأزمات. الطريق الأقرب لكسب مصداقية عند مخاطبة الرأى العام لا يعرف سبيلاً غير عرض الحقائق وتوجيه الرأى العام إلى البدائل التى من شأنها تخفيف معاناته بعد أن اجتاح جنون التلويح بالحروب العالم.
الحرب العالمية الثانية تركت إنجلترا وفرنسا وسائر دول أوروبا فى حالة شبه دمار كامل على صعيد الاقتصاد والبنى التحتية.. لم يرفع إعلام أوروبا المقروء والمرئى آنذاك شعارات التلويح بالفوضى. كان التوجه العام حث شعوب أوروبا على اجتياز الأزمة الكارثية وتحمل إجراءات تقشفية غير مسبوقة فرضتها حكوماتهم إذا ما أرادوا إعادة بناء دولهم. صدّق الإنجليز كلمات رئيس الوزراء ونستون تشرشل «الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا فى تربة التضحيات وتسقى بالعرق». توارت أصوات التذمر والتأليب مقابل حالة وعى عام مندفعة نحو تجاوز الدمار إلى بناء دول قوية واقتصاد راسخ. استطلاع المشهد الدولى الحالى لا يبلغ درجة الصورة المظلمة التى كانت عليها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والتحالفات التى أفرزتها، إلا أنه يفرض ملامح مقاربة، وإن كان الاختلاف يتمثل فى المفهوم العصرى للحروب، إذ لم يعد الأمر يقتصر على تدخل عسكرى روسى فى أوكرانيا بعدما تشابكت خيوط التحالفات التى تحكم طبيعة تدخل دول أوروبا فى هذا النزاع إلى ما هو أبعد. الشق الاقتصادى لم يعد -رغم أهميته- يشكل التهديد الوحيد، بل امتد إلى استقطاب سياسى تسعى خلاله أمريكا وأوروبا لجذب الدول، وضمنها طبعاً المنطقة العربية، للانحياز إلى موقفها ضد روسيا. فى المقابل تسعى كل من روسيا والصين إلى تطبيق نفس السيناريو.
على الصعيد السياسى نجحت الرؤية العربية الموحدة فى الالتزام بموقف الحياد الضامن لمصالح شعوب دولها، إذ تجاوزت كل ضغوط الطرفين بما تملكه من تأثير فى ملف الطاقة ومهارة توظيفه فى فرض استقلال قرارها السياسى، خصوصاً أن هذا الملف أصبح هاجس أوروبا الأول مع اقتراب فصل الشتاء. على الصعيد الاقتصادى، تسعى الدول المؤثرة فى المنطقة للتخفيف من تداعياته عن طريق المضى فى التكامل الاقتصادى عبر تكثيف الاتفاقيات التجارية والشراكات بينها.
هناك مشاورات ولقاءات مستمرة بقيادة مصر لتخفيف وطأة معاناة شعوب المنطقة نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية.. فى المقابل، مخاطبة الرأى العام تفرض الالتزام تجاه القاعدة الاجتماعية المعنية بالخطاب، تتضاعف هذه المسئولية خلال أزمة عصفت باقتصادات أكبر دول العالم.. رغم ذلك لا نسمع صوتاً فى الإعلام المقروء والمرئى يغرد بعيداً عن الوعى الشعبى العام وهو يحاول دعم دوله فى تجاوز الأزمة الخانقة عن طريق تعديل سلوكه الاستهلاكى. صياغة سرد أزمات العالم الأمنية والاقتصادية دون تقديم أى تصور للبدائل، بالإضافة إلى التلويح بورقة الاضطرابات والفوضى التى ذاقت وبالها الشعوب العربية، ومن المستبعد أن تعيد تكرار ذات السيناريو الذى أعاد اقتصادها واستقرارها خطوات إلى الخلف.. تتقاطع منطقياً مع دروس التاريخ التى أثبتت أن مواجهة أزمات اقتصاد الدول تنجح فقط بالمسئولية المشتركة بين الحكومة والمواطن من داخل خندق واحد. الشعوب العربية حفظت الدرس جيداً.. الفوضى قطعاً لا تقدم حلولاً ولا تحمل وصفة سحرية لإنهاء الأزمات الدولية.