«الوطن» تواصل نشر مذكرات الدكتور سعد الدين إبراهيم أيام الحزن والموت

«الوطن» تواصل نشر مذكرات الدكتور سعد الدين إبراهيم أيام الحزن والموت
فى الحلقة السابقة تحدث الدكتور سعد الدين إبراهيم عن علاقته بالفريق أحمد شفيق، ونجيب ساويرس رجل الأعمال، والجهاديين، وقال إن 30 جهادياً خرجوا من السجون فى مزرعته ونصحهم بالانضمام إلى حزب الإخوان ففاجأوه بقولهم «أعوذ بالله»، واتصل بـ«ساويرس» ونقل له رغبة الجهاديين فى الانضمام إلى «المصريين الأحرار» فاندهش، وطلب عرض الأمر على «اللجنة العليا». وقال إن «ساويرس» استضاف الجهاديين ومنحهم مليون جنيه دعماً لتأسيس حزبهم. وكشف أنه كتب بالفعل الخطاب الذى تلاه شفيق قبل بدء مرحلة الصمت الانتخابى فى جولة الإعادة أمام محمد مرسى. وشرح بالتفصيل كيف أدلت ابنة عمه بشهادة أدانت عمر عبدالرحمن بعد اغتيال زوجها فى أمريكا.
للموت ذكريات كثيرة معى، فمن التقاليد الريفية التى كنت أشارك فيها وأنا صبى لم يتجاوز الثامنة «المآتم» ولكن كانت مشاركة غريبة ومختلفة، حيث كانت العادة أنه فى مساء يوم المأتم ترسل الأسر الميسورة صينية عامرة بالمأكولات، وكان رب الأسرة يصحب أو يستقبل هذه الوليمة الخاصة بأسرته فى سرادق العزاء، وكانت حكمة هذا التقليد أن أهل الفقيد الذى رحل لا وقت لديهم لإعداد موائد الطعام للمعزين من خارج القرية، وقد تصادف فى مأتمين أن كان والدى وأشقائى الذكور خارج القرية ولكن والدتى كانت تصر دائماً على القيام بالواجبات العائلية المعتادة، وكانت تعد الوليمة وترسلنى فى صحبتها فآخذ مكانى بين أعيان القرية الذين يعدون موائد مماثلة، وكان علىَّ أن أدعو بعض المعزين من خارج القرية إلى مائدتنا.[FirstQuote]
وعلى ذكر المآتم فقد شهدت فى طفولتى عدداً منها فى أسرتى «والدى ووالدتى» فقد توفى عمى «على إبراهيم» أثناء اجتياح وباء الكوليرا مصر عام 1946، وكذلك خالى «النادى السيد عبدالله» وكان الشقيق الوحيد لوالدتى وأربع أخوات أخريات، وبعد ذلك بعامين فقدتُ جدتى لوالدى «عائشة»، وكذلك أحد أصدقاء الطفولة «فاروق شحاتة» وقد حزنت على هؤلاء الأربعة حزناً شديداً وكانت هذه بداية تجربة الموت والحزن لطفل لم يتجاوز التاسعة، وظل هذا الحزن معى لعدة سنوات، وكنت أزور قبورهم فى كل عيد، ولا شك أن فقد صديقى فاروق بعد مرض قصير ومعرفتى بالخبر فى عطلة نهاية الأسبوع فى شهور الدراسة الأولى بالمنصورة كان صدمة عميقة على عكس الآخرين من الأقارب الذين رحلوا كباراً أو أصابهم المرض لفترة، أما صديقى فقد كان رفيقاً فى كل مغامرات الطفولة المبكرة وكان نداً ذكياً سواء فى كُتاب القرية أو مدرستها الإلزامية. وأذكر أنه كان وحيد والديه وكان يتمنى الالتحاق بمدرسة المنصورة الابتدائية الأميرية إلا أن أسرته لم تكن تستطيع إرساله إلى المدينة ودفع مصروفات الدراسة، حيث لم تكن مجانية التعليم قد بدأت بعد ولم أستوعب أنا فى ذلك العمر معنى وتداعيات الفوارق الطبقية التى حرمت فاروق من فرصة للتعلم الإضافى وحرمتنى من استمرار رفقته معى فى المنصورة، وأذكر إلحاحى على والدتى أن تتدخل مع أسرة فاروق لإقناعهم بالالتحاق بنفس المدرسة، وعرضت والدتى أن تتكفل أسرتنا بمصروفاته ولكن والده كان معتزاً بنفسه وكان يؤمن بأن صنعة البناء ستكفل لفاروق مستقبلاً كريماً، وربما كان والده على حق فقد كان هو «البنا» الوحيد فى القرية ولا يتوقف الطلب على خدماته.[SecondImage]
ولم تتوقف مسيرة الرحيل الذى كتب علينا جميعاً أن نعانى أحزانه، فقد سافرت لإعداد رسالة الماجستير فى عام 1964، وفجأة ودون مقدمات وصلنى خبر وفاة والدى فى منتصف سبتمبر وحزنت حزناً عميقاً ليس لفقده فحسب، وإنما لأن الوفاة كانت مفاجئة بلا مقدمات مرضية، ولأن الأسرة لم تكن هى التى أخبرتنى بها وإنما برقيات وخطابات العزاء التى بدأت تصلنى من الأصدقاء والمعارف بعد الوفاة بعدة أيام عقب قراءة نعى الوفاة فى الصحف المصرية، لذلك اختلط حزنى العميق بغضب شديد من الأسرة التى لم تبلغنى بالأمر وبالتالى لم أعد إلى مصر لحضور الجنازة ومراسم العزاء عند معرفة الخبر فى «سياتل»، وتجمع زملائى المصريون والعرب فى مقر سكنى الجديد الذى كنت أعيش فيه مع زميلين مصريين آخرين يدرسان العمارة. وكان الطابق الأول يحتوى غرفة استقبال واسعة، فأقاموا بها مراسم «عزاء فى الغربة» بقراءة القرآن الكريم ومواساتى طوال عصر ومساء اليوم الذى وصلنا فيه الخبر، وكانت البرقية الأولى للعزاء التى وصلتنى من السفارة والمكتب الثقافى فى واشنطن، وكانت رسالة العزاء الأولى التى وصلتنى من مصر من الأستاذ محمد العادلى والد زميلى وصديقى فاروق العادلى من ثلاثى الامتياز بقسم الاجتماع بكلية الآداب، وتحدثت تليفونياً مع شقيقى حامد حيث كان الوحيد فى ذلك الوقت الذى لديه تليفون، وعبرت عن غضبى أكثر مما عبرت عن حزنى واستمع الشقيق وبكى وامتص ثورة غضبى ووعدنى أن يكتب لى بدلاً من الحديث التليفونى، وفعلاً تسلمت منه رسالة شرح فيها ظروف الوفاة قائلاً إنها حدثت بين يديه فى ثوانٍ معدودة بمستشفى المواساة بالإسكندرية، حيث كان والدى سيجرى جراحة فتاق بسيطة وأسلم الروح فى الدقيقة الأولى من جرعة التخدير، وقبل أن يلمسه مشرط الجراح. وأوضح لى شقيقى حامد أنه ظل فى حالة ذهول لما حدث عدة أيام، وكان فى نصف وعيه، وشريط الأحداث يتدافع من حوله، وأن الزملاء فى العمل والأصدقاء والأقارب فى الإسكندرية هم الذين قاموا بالقسط الأكبر من إجراءات شهادة الوفاة وإخبار الأسرة فى «بدين» والعم عبدالوهاب فى القاهرة ونقل الجثمان إلى القرية، حيث تمت مراسم الصلاة والدفن والعزاء، وأنه لم يكن لا هو ولا بقية الأسرة فى حالة تسمح بترك كل شىء لإرسال برقية لعنوانى الذى لم يكن متوفراً لهم بسهولة أو البحث عن رقم تليفونى والانتظار ساعات فى أحد السنترالات العامة لإجراء مكالمة إلى أمريكا وهو ما كانت عليه الأحوال فى تلك الأيام.[SecondQuote]
وكان خطاب حامد مقنعاً وصادقاً وحينما تجاوزت أحزانى وغضبى أدركت فعلاً أننى فى أحسن الأحوال وأسرعها، حتى لو كنت قد عرفت خبر الوفاة فى حينها، فقد كنت سأصل إلى قريتى بعد 48 ساعة ولم يكن الدفن أو العزاء لينتظرا كل هذا الوقت طبقاً للعادات والأعراف وفى وقت صيف، حيث يصعب الاحتفاظ بالجثمان لأكثر من 24 ساعة دون أن يصيبه التعفن فى غياب مبردات خاصة، وترحمت على أبى مجدداً وبكيت وحدى وأنا أتذكر أحضانه وقبلاته النادرة لى، ومنها يوم ظهرت نتيجة الثانوية العامة وكنت من العشرة الأوائل ومنها صباح اليوم الذى كنت أغادر فيه الوطن من مطار القاهرة وقد اكتشفت فى تلك المناسبة كم يكون الحزن مضاعفاً حين يكون الإنسان وحيداً وبعيداً عن الوطن والأهل.
وفى عام 1983 رحلت شقيقتى الكبرى «روحية» عن عمر لم يتجاوز الرابعة والستين، وفضلاً عن حزنى عليها كشقيقة فقد أشفقت على كل من تركتهم وراءها من أحبائها، وكان مؤلماً بوجه خاص حزن أمى التى كانت فى مطلع الثمانينات وتمنت الموت بدلاً عن ابنتها التى تركت زوجها وتسعة من الأبناء والبنات كان أصغرهم «محمد» لا يزال فى المرحلة الثانوية. وانتابتنى مشاعر عديدة، منها إحساسى ببعض الذنب نحو شقيقتى الراحلة التى لم يتسع وقتى لرؤيتها أكثر والحديث معها لفترات أطول، وكان هذا الوقت يتسع لكثيرين من الشرق والغرب والشمال والجنوب ومن كل الأعمار، وفى طريقى إلى جنازتها فى المنصورة أدركت كيف أصبحت عائلتى الأصيلة الممتدة أكثر هامشية فى حياتى رغم حبى لكل أفرادها.[ThirdImage]
ولأن الرحيل لا يتوقف فقد أُبلغت بمرض والدتى فسافرت إلى قريتى للاطمئنان عليها، وكان هناك غموض فى تشخيص حالتها ولم يكن هناك اتفاق بين أطباء المنصورة الذين فحصوها، حيث إنها تشكو من تدهور فى وظائف الكبد، وكانت أمى فى الثالثة والثمانين من عمرها وساورتنى الهواجس لأنها المرة الأولى التى تشكو فيها شكوى جادة بل ولا أذكر أنها ترددت على الأطباء قبل هذه المرة رغم أنها كانت دائمة الشكوى فى السنوات الثلاث الأخيرة من آلام فى ظهرها أو مفاصلها، ولكنا نحن أبناءها كنا نرجع ذلك إلى تقدمها فى السن من ناحية وإلى زيادة فى وزنها من ناحية أخرى، وأصررت على إحضار والدتى معى إلى القاهرة لفحوص طبية متخصصة ولكى تقضى بعض الوقت معى وحفيديها «راندا وأمير» واتضح من الفحوص والأشعات أن هناك احتمالاً كبيراً فى إصابة الكبد بورم خبيث، وهو ما لم أخبر والدتى أو أفراد الأسرة به لحين إعادة الفحوص فى معهد الأورام، وبالفعل تأكد لى ما كنت أخاف منه وأن الورم تقدم بالفعل إلى مرحلة لا يمكن استئصاله معها ولكن يمكن وقف انتشار الورم، وتقوية ما تبقى سليماً للقيام بوظائف كبد شبه كامل، وعلمت أنه لم يتبق لها على قيد الحياة إلا عدة شهور، وكانت الأدوية والجلسات الكهربائية تقلل الشعور بالألم وتضع والدتى فى مزاج طيب، وكانت سعيدة عموماً لقضائى وقتاً طويلاً معها، وقامت «راندا» التى لم أخبرها بخطورة مرض جدتها بعمل تسجيلات صوتية معها عن طفولتها وكيف تعرفت بجدها وحفل عرسها وكم وليداً أنجبت، وكان الجديد لراندا أن أم كلثوم التى كانت لا تزال مغمورة ومن قرية مجاورة «طماى الزهايرة» هى التى أحيت عرس جدتها جوهرة وجدها، وكان أشقائى «آمال وشفيقة وأحمد وحامد وإبراهيم» يترددون على منزلى دورياً للاطمئنان وقضاء بعض الوقت مع والدتنا بعد أن أخبرتهم جميعاً بالمرض الحقيقى، وإن لم أخبرهم بمسألة الشهور المعدودة المقدرة لها، وكانت إحاطتها بأولادها وبناتها وأحفادها تسعدها رغم آلام المرض، وكانت هذه السعادة تتضاعف حينما تجلس فى حديقة الفيلا والشمس مشرقة وتنضم إليها شقيقتها الأصغر «شاهدة» وهى الوحيدة من شقيقاتها السبع التى كانت تعيش فى القاهرة، وحينما أخبرت خالتى «شاهدة» بحقيقة مرض شقيقتها الكبرى ضاعفت من زياراتها وقضاء الليالى معها مبيتاً، وكنا نلاحظ الشقيقتين الكبرى والصغرى تتحدثان فى الفراش طول الليل كما كنا نفعل نحن كأطفال وصبية وشباب، وأخبرت زوجتى والديها بمرض والدتى وإقامتها معنا فقررا عدم الحضور لقضاء أعياد الميلاد فى مصر كما هى العادة، احتراماً منهم للظروف، ومع ذلك فقد أحضرنا شجرة عيد الميلاد وقمنا بتزيينها وحاولنا جاهدين أن يستمتع راندا وأمير بالمناسبة مع جدتهما، ولدهشتنا استمتعت والدتى بالجو الاحتفالى وبألوان وزينات شجرة عيد الميلاد وكان لديهن جميعاً روح دينية متسامحة «ستختفى للأسف تدريجياً من الأجيال المصرية التالية» وقد تركنا والدتى مرة واحدة فى تلك الفترة لعدة ساعات فى ليلة رأس السنة وقضتها هى مع شقيقتها شاهدة وراندا وأمير أمام التليفزيون ومع المشروبات والحلويات أى أنهم أيضاً احتفلوا برأس السنة، أما أنا وزوجتى فقد قضينا ليلة رأس السنة مع «د. نوال السعداوى، ود. إيفيلين رياض، ود. ميلاد حنا، ود. عواطف عبدالرحمن، ود. لطيفة الزيات» فى منزل نوال السعداوى وشريف حتاتة فى الجيزة، وفى الأسابيع الأخيرة كانت أمى تحدثنى عن الكيفية التى تريد بها جنازتها ومن يقرأ فى الصوان الذى سيقام فى وفاتها وهو الشيخ الطبلاوى الذى لم أكن قد سمعت به، وضمن ما قالت إنها لا تخاف الموت ولكنها تخاف المرض الطويل وما يصاحبه من آلام لها وأعباء لأبنائها وبناتها، ولم أعلم يقيناً إذا كانت قد عنت فعلاً ما قالت ولكنى أذكر فى إحدى مداعباتى لها وهى تتحدث عن جنازتها ووفاتها أننى سألتها إن كانت تريد أن ينشر نعى فى الصحف، فقالت على الفور طبعاً، وشجعنى ذلك أن أقرأ لها نماذج مما ينشره الأهرام فى صفحة الوفيات وكانت تهز رأسها وهى تستمع باهتمام ثم طلبت منى ورقة وقلماً وأملت علىَّ ماذا نكتبه فى نعيها، وكانت أمى أمية ورغم ذلك كانت حريصة على تعليم كل أبنائها وبناتها وكانت كلما تذكرت أحد أقربائها أو قريباتها طلبت منى أن أضيف أسماءهم إلى مسودة النعى الذى كنا قد أعددناه.[ThirdQuote]
وفى شهر أبريل 1984 لفظت والدتى آخر أنفاسها فى منزلنا الريفى بقريتنا «بدين» مركز المنصورة دقهلية وكانت عودتها إلى منزلنا بناء على طلبها وبإلحاح منها قبل رحيلها الفعلى بأسبوع كامل، حينما أحست بدنو أجلها ورغم إدراكى أن الموت علينا حق وأننى كنت مهيأ نفسياً لرحيل والدتى ورغم زيادة معاناتها فى الأسبوعين الأخيرين فإننى انفجرت باكياً حينما اتصلت بى شقيقتى آمال من المنصورة فى مكتبى، وتركت مكتبى باكياً إلى منزلى بالمعادى، وعندما دخلت المنزل كانت راندا وأمير يلعبان فى الحديقة وكانت زوجتى فى مكتبها بمؤسسة فورد التى التحقت بها منذ عام كمديرة لبرنامج المرأة ومناهضة الفقر، وأخبرت حليمة مديرة البيت بالخبر وكانت شديدة التعلق بوالدتى فقد كانت مؤنس صحبتها خلال ساعات عملنا خارج المنزل، وأعددت حقيبة سفر صغيرة واتصلت بزوجتى وأخبرتها وأشارت بأن أذهب لألحق بالجنازة وهى ستأتى ورائى، وركبت سيارتى فى الطريق إلى قريتى وتدافعت الذكريات والخواطر والمشاعر، وكان الخاطر الذى طغى علىَّ هو «كان الربيع فى أوجه وكانت الشمس مشرقة على الحقول الخضراء بالبرسيم والفول والقمح وأشجار الفاكهة وتدافعت ذكريات طفولتى التى كانت فى معظمها سعيدة آمنة وتشجيعها الدائم لى ولأشقائى لأن نتفوق لنصبح مثل خالها إسماعيل بك الذى كان مديراً للخاصة الملكية إلى أن توفاه الله فى أواخر أربعينات القرن العشرين وكان إسماعيل بك هو القدوة وحينما أخبرناها بإلغاء ألقاب البكوات والباشوات انتقلت إلى عمنا المهندس عبدالوهاب شقيق والدى الذى أفلت من مصير أقرانه خلال الكساد الأعظم بقبول أى أعمال أو وظائف متواضعة إلى أن أنهى تعليمه الجامعى وهكذا طالما وضعت أمامنا هذه المرأة المصرية التى لم تحظ بأى تعليم نظامى نفسها وضعت أمامنا التعليم كقيمة والتفوق كمعيار للصلاح فى الدنيا والآخرة، وكانت دوماً فخورة بتفوقى الدراسى حتى عندما لم تدرك موضوع هذا التفوق أو تفاصيله أو آلياته وكانت تقرن هذا التفوق برضاء الله سبحانه وتعالى علىَّ، حيث كنت متديناً فى طفولتى وكانت هى تؤمن إيماناً جازماً بأنه لولا هذا التدين لما تفوقت، ورغم تناقص تدينى فى مرحلة المراهقة والشباب فقد استمر تفوقى وظلت هى على اعتقادها بسببية التدين والتفوق، وكان شقيقى الأكبر إبراهيم يهوى تدمير أو تشويه الصورة المثالية التى تحملها والدتى عنى، خاصة فيما يتعلق بعلاقاتى بالجنس الآخر، ورغم الأدلة المادية التى كان ينقب عليها ويحملها من شقة العزوبية فى القاهرة إليها فى قريتنا من صور وملابس داخلية وأدوات تواليت نسائية فإنها كانت ترفض تصديقه وتعتبره مفترياً على الله وعلىَّ بالكذب وتفسر هذه الافتراءات من منطلق غيرة الأشقاء.
كنت أبتسم لنفسى وأنا أتذكر هذه المشاهد وغيرها من طفولتى وشبابى وتذكرت أول عيد أم احتفلت فيه بها عام 1955 حين دعا إليه الصحفى الكبير مصطفى أمين وأذكر زجاجة العطر التى اشتريتها لها بهذه المناسبة وكيف بدأت بذلك تقليداً فى القرية كلها إلى أن سافرت للدراسة فى الولايات المتحدة فانقطع التقليد بالنسبة لى 12 عاماً إلى أن عدت فوجدت أن عيد الأم أصبح عيداً قومياً تحتفل به مصر وكل الشعوب العربية، وتذكرت كيف أصبح هذا اليوم من كل عام مصدر فرحة مزدوجة وإرهاق مزدوج منذ عودتى إلى مصر عام 1975، لأنه كان أيضاً عيد ميلاد زوجتى فما لم تكن أمى فى زيارتنا بالقاهرة فإننى كنت أستيقظ مبكراً وأسافر إلى القرية للاحتفال معاً طوال اليوم وكانت شقيقاتى عادة ما يحضرن أيضاً من المنصورة وكيف كنت أسارع بعد الغداء مباشرة بشد الرحال عائداً إلى القاهرة لأحتفل مع طفلى بعيد ميلاد زوجتى وابتسمت ابتسامة عريضة لأنها كانت معنا فى القاهرة فى آخر عيد أم منذ 3 أسابيع واحتفلنا به وبها وكنت وزوجتى وشقيقتها شاهدة وأشقائى وشقيقاتى الذين أتوا إلى منزلى بالقاهرة ندرك أنه قد يكون آخر عيد أم نحضره معها، وبدأت أتساءل فى داخلى كيف أننا نأخذ وجود الأم فى حياتنا وحبها لنا ضمن المسلمات إلى أن يخطفها الموت وتبدأ مشاعر الذنب أننا لم نقض معها وقتاً أطول ولم نرد لها جمائلها التى لا تحصى بالقدر الكافى، وأهملنا تلبية بعض طلباتها ولم نعبر لها عن مشاعر حبنا بما يكفى من أقوال وأفعال، وخفف قليلاً من مشاعر الذنب أنه منذ وفاة شقيقتى الكبرى روحية وأنا أكثر وعياً وحرصاً على اقتناص الفرص لقضاء الوقت مع أمى والحديث إليها كثيراً فى كل الموضوعات وكم أسعدنى الآن أن ابنتى راندا قامت بتسجيل أشرطة لحديثها عن ذكرياتها، وخفف قليلاً من شعور الذنب أنها كانت دائمة الثناء والدعاء لى ولزوجتى على حبنا لها وحسن استقبالها والعناية والرعاية التى تلقاها فى منزلنا أكثر من أى من منازل بقية الأشقاء والشقيقات إلى أى حد كان ذلك مجاملة منها أو حقيقة سيظل ذلك فى علم الغيب، وأيضا خفف من مشاعر الذنب قليلاً حديثها التلقائى الطبيعى عن الموت بلا خوف أو هلع وكان إيمانها بالله عميقاً وكان تدينها هو السياج الواقى من المصائب والملحات، ورأيتها تبكى مرات عديدة فى مناسبات تستدعى الحزن والبكاء ولكنى لا أذكر أبداً أننى رأيتها تولول أو تلطم خدودها كما كان ولا يزال شائعاً فى ريفنا المصرى وفى أحيائنا الشعبية، وسالت دموعى مرة أخرى وتزامن ذلك مع وصولى إلى قريتى».
وجدت القرية كلها ملفوفة بثياب ثقيل من الحزن والناس تتدافع نحو السيارة ويهرولون بموازاتها من مدخل القرية إلى منزلنا ليقدموا العزاء، ولا أظن أننى شاهدت كمية بكاء فى قريتنا مثلما شاهدت فى ذلك اليوم، حيث كانت القرية تبكى فراق ورحيل أكثر نسائها ورعاً وتقوى وكرماً وإحساناً على الفقراء والمساكين وكانوا يودعون معنا ست ستات الحبايب.
وأيضا عندما دخلت السجن وفى الأشهر الأولى لى فى مايو 2001 فجعت بنبأ وفاة الصديق الدكتور إبراهيم شحاتة، النائب الأول لرئيس البنك الدولى سابقاً، وكان من آخر مناقب الفقيد الشهادة الرائعة التى أدلى بها فى محكمة أمن الدولة العليا فى فبراير 2001 مع كل من د. أحمد كمال أبوالمجد ود. سعيد النجار ود. عبدالمنعم سعيد ود. محمد الجوهرى والسفير محمد شاكر واللواء أحمد عبدالحليم، وكانت معرفتى بالدكتور إبراهيم شحاتة تعود إلى أيام دراستنا فى الولايات المتحدة فى الستينات ولكن صداقتنا توطدت كثيراً فى التسعينات وكان الفقيد نموذجاً فى العلم والعطاء والوفاء، وكان إعجابه شديداً بتجربة مركز ابن خلدون، ونشر له المركز الأجزاء الأربعة من كتابه «وصيتى لبلادى» فى عامى 1998 - 1999، لقد مات الصديق فى أحد مستشفيات واشنطن عن عمر يناهز 67 عاماً، وأيضا سمعت من محطة أجنبية على الراديو الذى كانت قد أحضرته لى الأسرة نبأ حزيناً آخر وهو وفاة المناضل والصديق «فيصل الحسينى» مسئول ملف القدس فى منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت علاقتنا قد توطدت منذ زيارتى الأولى إلى بيت الشرق بالقدس وتبادل بدوره الزيارات معى فى القاهرة، سواء فى مركز ابن خلدون أو فى منزلى وتوفى فيصل الحسينى إثر أزمة قلبية وهو يشارك فى ندوة عن التطبيع فى الكويت عن عمر يناهز 61 سنة وكان لقائى الأول معه بحضور د. عزمى بشارة وزوجتى د. باربارا فى 18 مارس 1995 على الإفطار فى فندق الأميريكان كولونى، وكانت من المصادفات أن جنازتى الصديقين إبراهيم شحاتة وفيصل الحسينى ستكونان فى نفس الساعة فى أعقاب صلاة الجمعة، الأولى من مسجد عمر مكرم والثانية من المسجد الأقصى بالقدس وكان المشترك بين الصديقين دماثة الخلق والإخلاص لقضايا الوطن والأمة والزهد فى المناصب والأضواء فترحمت على الفقيدين اللذين سيشيعان إلى مثواهما الأخير دون مشاركتى، وفى النهاية رحم الله أبى وأمى وأشقائى وأصدقائى وكل من فارقونى إلى عالم أفضل وإلى أن ألقاهم.