«ميس كافيل» مصر.. حميدة خليل أول شهيدة في ثورة 1919

كتب: ياسر الشيمي

«ميس كافيل» مصر.. حميدة خليل أول شهيدة في ثورة 1919

«ميس كافيل» مصر.. حميدة خليل أول شهيدة في ثورة 1919

نحن ﻻ نهاب الموت.. أطلق بندقيتك إلى صدري لتكون هناك «ميس كافيل» أخرى، نزلت كلماتها كالرصاص على الجندي الإنجليزي الذي كان يصوب سلاحه في وجهها، نطقت بها غير مبالية أعقابها، يوم 16 مارس 1919، معلنة بإصرار وشجاعة مذهلة، التحدي الصارخ للمحتل الغاصب، رافعة شعار «الموت للجميع» في سبيل تحرير الوطن وكرامته، لم تكن مدركة وهي تنطق باسم أيقونة الإنسانية إبان الحرب العالمية الأولى، أن هناك «كافيل» مصرية، جادت بروحها قبل يومين من كلمتها، لم تكن تعلم بسقوط أول شهيدة مصرية برصاص بني جلدته الإنجليز، لم تكن تسمع عن اسم السيدة «حميدة خليل»، ابنة كفر الزغاوي بمنطقة الجمالية، شرارة الثورة وفتيلها، التي انتقلت إلى جوار ربها يوم 14 مارس.

دماء على أستار يوم المرأة المصرية

الغريب والمدهش أنني في أثناء مراجعتي لتلك الأيام العظيمة من تاريخ مصر، وجدت أن معظم من طالعتهم وقرأت لهم، يذكرون أن السيدة العظيمة حميدة خليل، استشهدت يوم 16 مارس، إلا أن مصطفى أمين أكد أنها سقطت يوم 14، أي قبل المظاهرة النسائية الحاشدة بيومين، ذلك اليوم الذي عُرف فيما بعد بيوم المرأة المصرية.

والأكثر دهشة وغرابة، أن أكثر الصحفيين فضلا عن المؤرخين، بعضهم ذكر أن أول شهيدة مصرية هي السيدة شفيقة محمد، وآخرين - وهم كُثر - من قالوا إن السيدتان استشهدتا في نفس اليوم، وهو الأمر الذي يفتقد الدقة إلى حد كبير، لأن السيدة شفيقة محمد استشهدت يوم 11 أبريل سنة 1919، أي بعد 27 يوما من استشهاد السيدة حميدة خليل، بل هناك سيدة أخرى سقطت يوم 18 مارس، لم تذكر الوثائق إلا اسمها فقط «سيدة حسن»، من «المناصرة» في حي عابدين بالقاهرة، فضلا عن سعدية حسن، شهيدة في مظاهرة شعبية بحي بولاق، تبعتها شفيقة عشماوي «أقيمت لها جنازة مهيبة»، وعائشة عمر وفاطمة رياض ونجية إسماعيل، وهو ما يعني أن السيدة هدى شعراوي، أعلنت بيانها عن سقوط أول شهيدتين بعد يوم 11 أبريل، ما يضع تفسيرا أمامنا لذلك الإعلان.

سعد زغلول يهتف «تحيا السيدة المصرية»

المناضلة المصرية حميدة خليل أول شهيدة للثورة، تلك الثورة التي اندلعت عام 1919 وشاركت المرأة المصرية في المظاهرات والإضرابات من خلالها، سقطت في 14 مارس سنة 1919 بالرصاص الإنجليزي، وكانت تشارك في الصفوف الأولى من مظاهرة أمام مسجد الحسين، الأمر الذي يجعلنا نتخيل المشهد في ذلك اليوم، بناءً على التركيبة المصرية العظيمة، حينما يرى طلبة المدارس العليا والثانوية، دماء سيدة مصرية تراق أمام أعينهم، لتروى ثرى المنطقة الشعبية بحي الجمالية، يكفي هذا المشهد فقط لأن يكون الشرارة الأولى للأحداث التي تلته.

ذكر الرافعي وغيره، من مؤرخي الثورة، أن من واجهت الجندي الإنجليزي سيدة مجهولة، لكن السيدة هدى شعراوي، أكدت في مذكراتها بعد انتهاء ثورة 19 بسنوات، أنها هي من تصدت لجنود الإنجليز حينما قادت مظاهرة نسائية ضمت 300 سيدة، وطفن بالقنصليات والسفارات الأجنبية ببيان احتجاج على بقاء الاحتلال البريطاني لمصر، وعند ذهابهن الى بيت الأمة قابلهن جنود الإنجليز وحاولوا منعهن من مواصلة المسيرة، مصوبين فوهات البنادق إليهن، فقالت له السيدة هدى شعراوي بحسب وصفها «نحن ﻻ نهاب الموت، أطلق بندقيتك إلى صدري لتكون هناك ميس كافيل أخرى»، وأدى ذلك إلى اعتراف المجتمع بدورهن، إلى حد جعل سعد زغلول باشا بعد عودته من المنفى، قال في أول خطاب له: «لتصيحوا جميعا.. لتحيا السيدة المصرية».

نعود للمناضلة المصرية الشهيدة حميدة خليل، صاحبة إحدى معجزات ثورة 19 العظيمة،عندما سجلت بدمها الطاهر في يوم 14 مارس، أن المرأة المصرية كانت في القائمة الأولى لشهداء الثورة، نعم كانت الشهيدة، في أول قائمة نشرتها الصحف، وأذاعتها وكالات الأنباء آنذاك، عن الذين سقطوا صرعى مجاهدين، بعد أن أدى الناس صلاة الجمعة بالأزهر ومسجد الحسين، ألفوا مظاهرة حاشدة، وسرعان ما انضم إليهم بقية الشعب، ومن بين هؤلاء المتظاهرين، عدد كبير من النساء، لتبدأ معركة حامية الوطيس بين المتظاهرين والقوات البريطانية أمام المسجد الحسيني.

عظيمات مصر يهزمن جنود بريطانيا العظمى

جن جنون الإنجليز من المشهد الذي لم يعتادوه من قبل، ظنًا ووهمًا بأن حركات الطلبة التي سبقت ذلك اليوم، لن تمتد إلى بقية الشعب المغدور بما فيه من نساء، لتنطلق المدافع البريطانية الرشاشة في قذائف متسارعة، حاصدة للأرواح، متصيدة لزعماء المظاهرة، فسقط اثنا عشر شهيدا، كانت في مقدمتهم الثائرة العظيمة الشهيدة حميدة خليل، لتعلن بجنازتها المهيبة هبوب الرياح التي لم تستطع قوة بريطانيا الهادرة إيقافها، ليكون استشهادها محركا للسيدات، ففي 16 مارس خرجت أول مظاهرة نسائية مكونة من 300 سيدة تقودهن هدى شعراوي.

وبحسب رواية عبد الرحمن الرافعي، خرجت السيدات والآنسات في مظاهرات حاشدة، تعبيرا عن الاحتجاج على ما أصاب الأبرياء من القتل والتنكيل في المظاهرات السابقة.

ووصف «الرافعي» مشهد المظاهرة النسائية قائلا: «سارت السيدات في صفين منتظمين، وجميعهن يحملن أعلاما صغيرة، وطفن الشوارع الرئيسية في موكب كبير، هاتفات بحياة الحرية والاستقلال وسقوط الحماية، فلفت موكبهن أنظار الجماهير، وأذكى في النفوس روح الحماسة والإعجاب، وقوبلن في كل مكان بتصفيق الناس وهتافهم، وأخذ النساء وشرفاتها يقابلنهن بالهتاف والزغاريد، وخرج أكثر أهل القاهرة رجالًا ونساءً لمشاهدة هذا الموكب البهيج، الذي لم يسبق له نظير، وأخذوا يرددون هتافاتهن».

كانت المتظاهرات في حشمة ووقار، وعددهن يربو على الثلاثمائة من عقائل العائلات، وأعددن احتجاجًا مكتوبًا ليقدمنه إلى معتمدي الدول، طالبن فيه بإبلاغ احتجاجهن على الأعمال الوحشية، التي قوبلت بها الأمة المصرية، ولكن الجنود الإنجليز لم يمكِّنوا موكبهن من العبور، فحين وصلت المتظاهرات إلى شارع سعد زغلول، قاصدات بيت الأمة، ضربوا نطاقًا حولهن ومنعوهن من السير، وسددوا حرابهم إلى صدورهن، وبقين هكذا مدة ساعتين تحت وهج الشمس الحارقة.

وأكدت السيدة هدى شعراوي في مذكراتها، أنها قالت للجندي الإنجليزي: «نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك إلى صدري لتجعلني مس كافيل أخرى، فخجل الجندى، وتنحى للسيدات عن الطريق، وسمح لنا بالعبور، وقدمنا احتجاجًا على هذه المعاملة الغاشمة، أرفقناه باحتجاجنا الأول لمعتمدي الدول».

أول بيان نسائي

تم توقيع أول بيان نسائي، شارك فيه مجموعة كبيرة من السيدات، منهن هدى شعراوي، نعمت فهمي، تحية سالم، مقلدة إسكندر، فهيمة مختار، حرم الدكتور راشد أبو يوسف، حرم ميخائيل بك شاروبين، الآنسة كريمة محمود سامي البارودي، فضلا عن حرم قاسم أمين، وغيرهن.

وهكذا وبفضل حميدة خليل، أول امرأة شهيدة في مصر، ماتت لأجل دفاعها عن الوطن واستقلاله من الاحتلال البريطاني، سرعان ما لحقتها غيرها من مظاهرات نسائية، انتقلت عدواها من الطبقة الارستقراطية إلى شرائح الطبقة الوسطى، ومنها إلى نساء الطبقة العاملة، التي سقط منهن شهيدات في ثورة 1919.

ومع الأسف يسود عدم اهتمام بسرد تلك الوقائع بشكل عام، فيتم الانحياز عن طريق التاريخ غير الدقيق والمنتقص الحقائق، مهدرًا لحقوق أبطال حقيقيون جادوا بأنفسهم، في سبيل رفعة مصر ورخاءها، ولا يتذكر المتناول لتلك الحقبة العظيمة من تاريخ البلاد إلا صفية زغلول، وهدى شعراوي، وهو ما يعد إنكار للدور العظيم والمدهش الذي أدته المرأة المصرية خلال الثورة وبعدها.

لا نقصد هنا بكل تأكيد، ترجيح كفة سيدة على أخرى، أو محاولة تكذيب أو تفنيد، ولا حتى إثبات بطولات على حساب أحد، لكنه الضمير المهني الذي يحركنا، محرضًا بقوة نحو البحث والتدقيق، فالسيدة شفيقة محمد شهيدة عظيمة، جادت بروحها فداءً لوطنها وقضيتها، ضحت بنفسها إكرامًا وإجلالا بغير رضوخ أو هوان، إلا أننا سعينا لإثبات حقيقة راسخة في التاريخ، وهي أن حميدة خليل ابنة كفر الزغاوي بالجمالية أول شهيدة مصرية في ثورة 1919 وشرارة أحداثها الأولى.


مواضيع متعلقة