كعب داير في البيوت.. «ليلة» كهربائي غسالات وسخانات: عشان مصاريف ولادي

كتب: سمر صالح

كعب داير في البيوت.. «ليلة» كهربائي غسالات وسخانات: عشان مصاريف ولادي

كعب داير في البيوت.. «ليلة» كهربائي غسالات وسخانات: عشان مصاريف ولادي

تشققات وجروح صغيرة، تركت أثارها في راحة يديها، اعتادت منظرها وتصالحت مع رؤيتها في حركاتها وسكونها، ملامح وجهها تشي بحياة معدمة تصارعها أم لثلاثة أبناء في عمر المراهقة، بمفردها، سلكت طريق مهنة صعبة، مجبرة غير مخيرة، تضع الجنيه فوق الأخر في محفظة بالية، تدخر جزءا قليلا، ما استطاعت، تكاد تملك بداخلها ثمن عشاء ليلة واحدة أو أقل.

ليله تعمل في تصليح الأجهزة المنزلية منذ 10 سنوات لكسب قوت يومها 

بخطوات مُتثاقلة، تغادر«ليله سيد» منزلها في باكورة صباح كل يوم صوب دكانها الذي استأجرته قبل سنوات قليلة لتستقبل فيه زبائنها، تقضي على بابه ساعات طوال في انتظار أحد الراغبين في إصلاح عطل أصاب غسالته أو أي جهاز كهربائي في منزله، متحدية الرجال في مهنة ذكورية، أجبرتها ظروفها الصعبة إلى التخلي عن أنوثتها لملء بطون أبنائها، باتت تعرف بين أبناء قريتها«الأزهري» التابعة لمركز سمسطا بمحافظة بني سويف بحرفتها ويديها «اللي تتلف في حرير».

لم ترث المهنة من والدها بل اكتسبتها بالممارسة،«بعد ما اتجوزت كنت غاوية أغير لمبة أو أصلح سخان واحدة واحدة اتعلمت وبقيت أصلح كل حاجة في البيت»، تروي الأم كيف بدأت العمل في مهنة«الكهربائي» في بداية حديثها لـ«الوطن».

قبل عشر سنوات، وفي ليلة شتاء ممطرة عجزت فيها عن حماية أبناءها الثلاثة من برودة الجو بملابس إضافية، اتخذت الأم قرار بالخروج إلى ميدان العمل، غير مكترثة لعادات أهل البلد التي تلزم كثير من السيدات على البقاء في ديارهن، ما العيب في أن تستغل «شطارتها» في كسب المال؟، هكذا ناجت نفسها وفي اليوم التالي كانت تجوب الشوارع وتعبر عثرات الأزقة والحواري بحثا عن الزبائن،«بلف على البيوت أصلح غسالات أو بوتاجازات أو سخانات وأي جهاز محتاج تصليح بعرف أصلحه».

استأجرت دكان قريب من بيتها لاستقبال زبائنها فيه

مبلغ بسيط ادخرته الأم من مكسبها اليومي استأجرت به «دكان» صغير على ناصية الطريق بالقرب من بيتها، يخلو من قطع الغيار، تملأ واجهته بأدوات تستخدمها في عملها، مفكات إنجليزي وأسلاك كهرباء، تلفت أنظار المارة إلى مهنتها فتدور بينها وبينهم حديث جانبي مدته لم تتجاوز الدقائق القليلة للاتفاق على سعر الزيارة المنزلية،«الزبون بيجي يتفق معايا على السعر وبحصله على عنوان بيته ومعايا عدة الشغل، مبقولش على أي حاجة لأ»، بصوت متنهد من أثر الشقاء تستكمل الأم حديثها عن عملها في إصلاح الأجهزة المنزلية.

جلباب قديم لم يتبق من زينته سوى فصوص قليلة على الصدر، ترتديه«ليله» كل يوم خلال عملها، تشمر أكمامها قليلا لتحكم قبضتها على غسالة معطلة أو سخان كهربي فتتجلى ارتعاشة يدها المصابة تفضح الثبات المُدعي الذي تستتر خلفه دومًا، إصابتها بغضروف في الظهر والتهابات في أوتار يدها لم يمنعها من العمل لكسب قوت يومها ومساندة زوجها في أعباء المعيشة.

الإبن الأكبر لها يرافقها في عملها ويتعلم منها سر الصنعة

«عبد الحميد» الإبن الأكبر لـ«ليله» بات رفيق رحلتها ومساعدها الأول، أينما توجهت يرافقها ممسكا أدوات العمل، يتشرب منها «سر الصنعة»، حين ضاقت به السبل وانقطعت عنه فرص العمل كسائق باليومية جراء أزمة كورونا لجأ إليها،«بقيت أخليه ينزل الشغل معايا ويتعلم مني الصنعة هو وأخوه التاني»، حتى بات ماهرا في المهنة في غضون أشهر قليلة، بحسب وصفه.

الزمن يجلو الذاكرة، لم تتذكر الأم أخر ليلة وضعت فيها رأسها على وسادتها برأس خالية من الفكر وبال مرتاح، ليال صعبة كادت ألا تمر، لم تطمع في أكثر من معاش ثابت يقيها من تقلبات الزمن، وتنفق به تعليم على ابنتها الوحيدة التي اضطرت إلى إلحاقها بإحدى المدارس الأهلية المجانية لعدم استطاعتها دفع مصاريف المدرسة لها، «بعلم ولادي المهنة عشان يساعدوني في ظروف مرضي بس نفسي بنتي تكمل تعليمها زي كل البنات»، اختتمت حديثها بكلمات قليلة وزرفت عينيها دمعًا بعدها.


مواضيع متعلقة