بـ«جلابية فلاحي».. صعيديات ينافسن الرجال في الغيطان: لقمة العيش تحكم

كتب: سمر صالح

بـ«جلابية فلاحي».. صعيديات ينافسن الرجال في الغيطان: لقمة العيش تحكم

بـ«جلابية فلاحي».. صعيديات ينافسن الرجال في الغيطان: لقمة العيش تحكم

رائحة الخضرة تنشر الحيوية، فتزول بها عَفَارة طريق الوصول إليها، جدران البيوت والشوارع الجانبية على أطراف المساحات الخضراء في ريف بني سويف تفوح برائحة «كفاح وشقى»، فتيات وسيدات بـ«100 راجل» رفضن الاستسلام لظروف معيشية صعبة، فحملن المسؤولية كاملة على أكتافهم دون تردد، وبحثن في «خرم الإبرة» عن انفراجة تمثل لهن الأمل، ليمنحن القوة والشجاعة لمن حولهن حتى وقفن بفخر يروين قصص النجاح، التي طبعت آثارها على ملامحهن، بعزة نفس ورأس مرفوعة.

نوسة تعمل في الزراعة منذ وفاة زوجها قبل 10 سنوات وتحلم بتوفير علاج لصغيرها

في السابعة من صباح كل يوم تنهَض «نوسة عبد الخالق» مبكرا على صوت إذاعة القرآن الكريم، الذي يعلو بالتواشيح الدينية الصادرة من المقاهي الملاصقة للبيت، تخرج من بيتها بخطوات مُتثاقلة، بعد أن اتشحت بملابسها الثقيلة لتحمي أكتافها من برودة الشتاء، تبدأ رحلة شقى يومية تركت أثارها على جبينها و تشققات في أصابع يدها، أجبرتها ظروفها الصعبة إلى التخلي عن أنوثتها واختارت من الفلاحة مهنة لها لملء بطون أبنائها الثلاثة.

قبل عشر سنوات، رحل زوج «نوسة» وترك لها أطفال ثلاثة أصغرهم مريض يحتاج علاج شهري تقدر قيمته بـ250 جنيه، فاتجهت نحو الأرض الزراعية بحثًا عن فرصة عمل تناسبها، متحدية الرجال في مهنة ذات طابع ذكوري مُسيَّرة وليست مُخيرة، «اتعلمت كل حاجة من أول يوم نزلت فيه الشغل عشان أجيب لقمة عيالي»، تقول السيدة البالغة من العمر 40 عاما، في بداية حديثها لـ«الوطن» بصوت منهك من أثر العمل في الأرض الزراعية وتحت حرارة شمس الظهيرة.

تشققات وجروح ملأت راحة يديها، وبقايا طين استقرت في أظافرها، هيئة تبدو عليها «نوسة» وسط الحقل تشي بسيدة لم تعش أجمل سنوات عمرها، تهم بحمل «قفة» جلدية ممتلئة بحبات من محصول البطاطس حصدتها بنفسها منذ باكورة الصباح، فينكشف بنطال ذكروي ارتدته لتتحرك بحرية وسط الزرع، «شغلي كله وسط الرجالة ولبسي بقى شبه لبسهم، اتعودت ع الشقى عشان عيالي ومصاريف علاج ابني الصغير» تقول عبارتها وتمضي في جني ثمار البطاطس.

في نهايات يناير وحتى الأسبوع الأول من فبراير كل عام، تحصد السيدة الصعيدية محصول البطاطس الذي حفظت أسراره وأجادت زرع بذوره في الأرض بعد توجيهات عدة تتلقاها يوميا من مالك الأرض التي تعمل بها، حتى باتت تتحدث بلهجة علمية عن السابق رغم أميتها، وبحسب وصفها للتجربة الجديدة بلكنتها الصعيدية «اتعلمت الري بالتنقيط لأول مرة السنة دي طول عمري بحط البذور في الأرض وبنسقيها بالغمر» ما أفاد في توفير كميات كبيرة من الماء والسماد كانت تهدر من قبل.

هاجر تساعد أسرتها في نفقات دراستها وتحلم بالجامعة 

في كل إجازة دراسية تأتي «هاجر عبد النبي» إلى موعد مع الريف وأدوات الزراعة للعمل من أجل كسب قوت يومها ومساعدة أسرتها محدودة الدخل، مراهقة تركت ما يحلم به الفتيات في مثل عمرها من أجل العمل، لم يشغل بالها لون طلاء الأظافر ولم تقض ساعات أمام مرآتها لتجربة قصة شعر جديدة تبرز جمال وجهها، كل ذلك لم يكن إلا في خيالها، أما واقعها بات عكس ذلك تماما.

«بكمل تعليمي وباجي كل أجازة ليا أشتغل في الفلاحة»، بصوت ناعم خجول تتحدث الفتاة المراهقة الطالبة في الصف الثاني الإعدادي لـ«الوطن» من خلف الكمامة الطبية التي تتسلح بها ضد وباء كورونا خوفًا على نفسها ووالدتها المسنة التي ترعاها هي وإخوتها، بحسب وصفها.

ظروف المعيشة الصعبة أجبرت والد«هاجر» على ترك بناته الأربعة والاغتراب في العاصمة من أجل العمل، فما كان من المراهقة الصغيرة إلا أن اختارت مهنة الفلاحة لتحصيل نفقاتها الشخصية ورفع الحرج عن أسرتها، دون أن تتخلى عن تعليمها وحلم الالتحاق بالجامعة.

مجدية تعمل منذ 25 سنة في الزراعة مع والدها وبعد مرض زوجها

انحراف يكاد لا يُرى في طريقة سير«مجدية أحمد»، يفضح الهدوء المُدعي للسيدة الخمسينية التي أحكمت قبضتها على «مشنة» جمعت بها كمية من محصول البطاطس، همت برفعها على كتفها رغم ضآلة حجمها، وباتت متمكنة في حمل أشولة المحصول وسط الأرض الزراعية، «أنا شغالة في الفلاحة من قبل ما أتجوز، جسمب اتعود على الشقا ونفسي أرتاح»، تقول السيدة الصعيدية التي لم يظهر من ملامحها سوى عينيها، في بداية حديثها لـ«الوطن» بعد أن كممت وجهها بطرف طرحتها السوداء وغطت رأسها بطاقية استعارتها من أحد أبنائها لحمايتها من حرارة الشمس.

نحو 25 عاما قضتهم السيدة الصعيدية في مهنة الفلاحة، بدأت العمل بها قبل زواجها لمساعدة والدتها، ولجأت إليها بعد مرض زوجها، خبرتها لم تقتصر على زراعة وجني ثمار البطاطس فقط، «بزرع طماطم و قمح وكل حاجة من صغري وحفظت طريقة كل زرعة وشغلي ميقلش حاجة عن الرجالة وسط الأرض الزراعية»، كل ذلك من أجل الإنفاق على أبنائها السبعة بعد أن أبت حرمانهم من التعليم.

لا ينم عن مهنتها الشاقة سوى تجاعيد وجهها وإرهاق عينيها والبقع البنية الداكنة على ظاهر يديها، نظرات المارة على طرفي الحقل لم تعير لهم بالًا، مرة تلو الآخرى حتى اكتسبت جرأة تعصمها من خجل التعامل مع الرجال، ورغم اعتيادها حمل الأوزان الثقيلة، وهنت «مجدية»، ولم تعد تطمح إلا في معاش شهري ثابت لها.

انتقصت من حكايتها الكثير ما زال في خزانة ذكرياتها تفاصيل تخشى الاقتراب منها، حتى لا تسقط القشرة الواهية التي تسند روحها، جلست في تركيز شديد تنظر إلى البراح الأخضر حتى انطلق لسانها بكلمات غير مُرتبة، «عايزة معاش اتسند عليه لو يوم جسمي اشتكى من التعب ومبقتش قادرة أشتغل».


مواضيع متعلقة