"ناهد" حمالة قسية.. ضهرها يشيل رمل وطوب وعفش و"أب وأم لـ5 بنات"

كتب: سمر صالح

"ناهد" حمالة قسية.. ضهرها يشيل رمل وطوب وعفش و"أب وأم لـ5 بنات"

"ناهد" حمالة قسية.. ضهرها يشيل رمل وطوب وعفش و"أب وأم لـ5 بنات"

باب خشبي سقط طلاؤه لم يعد لألواحه سوى لون كالح يشي بما وراءه من حياة مُعدمة تصارعها سيدة ثلاثنية وبناتها الخمس اللاتي لم تتجاوز أكبرهن عامها السادس عشر، منزل لا يسع إلا غرفة واحدة يخلو من الأثاث يفترش ساكنيه الأرض، حتى في ليالي الشتاء القارصة.

تنهَض الأم من غَفوتها مبكرا على صدُوح إذاعة القرآن الكريم بالتواشيح الدينية من المقاهي والمحال الملاصقة للبيت، تخرج من بيتها بخطوات مُتثاقلة، بحثًا عن أحد يرغب في نقل أثاث أو أجهزة كهربائية تارة، أو الراغبين في نقل أشولة الطوب والرمل والأسمنت في مواقع البناء، متحدية الرجال في أكثر المهن قسوة، مُسيَّرة وليست مُخيرة، أجبرتها ظروفها الصعبة إلى التخلي عن أنوثتها لملء بطون أبنائها، فباتت تعرف بين أبناء منطقتها "بشتيل" بـ"ناهد الشيالة".

كسرة خبز مغموسة في الشاي.. فطور "ناهد" الذي تتناوله في عجالة، تبقى عليها حتى نهاية يومها، تحكم إغلاق باب منزلها على بناتها الخمس بمفتاح تضعه في محفظة بالية تكاد تخلو من النقود إلى جنيهات معدودة، تقطع خطوات قليلة صوب "التروسيكل" الذي تمتلكه، اشترته قبل عامين بالتقسيط لتعمل عليه، وتنقل به أجولة الرمل والطوب، تدّور محركاته فتتصاعد منه أدخنة رمادية، فيتجلى خاتمها الفضي الذي يلمع في إصبعها وسط تشققات وجروح يدل على سيدة لم تعش أجمل سنوات عمرها، تهم بالصعود عليه، فيكشف الجلباب المتبقي على صدره قليل من الفصوص اللامعة بنطال ذكروي ارتدته لتتحرك بحرية في عالم ذكوري، لغته الوحيدة هو "القوة"، "طول عمري وأنا شقيانة ومش عايزة أحوج بناتي لحد"، تقول السيدة الثلاثينية والدموع تجري في عينيها، في بداية حديثها لـ"الوطن".

بعد غياب زوجها منذ عامين اضطرت للعمل "شيالة" واشترت "تروسيكل" بالتقسيط لتنقل عليه الأشولة والعفش

انحراف يكاد لا يُرى في طريقة الجلوس، يفضح الهدوء المُدعي للسيدة التي أحكمت قبضتها على محركات "التروسيكل" تطوف به شوارع منطقة بشتيل بمحافظة الجيزة، بحثًا عن حمولة تنقلها على كتفيها من مكان لآخر، "بنقل  طوب ورمل وعفش وأدوات كهربائية، أي حاجة بنقلها" لم تجد سوى مهنة "الشيال" لتكسب قوت يومها بعد غياب زوجها عنها منذ عام 2018، ورغم صعوبة المهنة إلا أنها لم تكن شفيعا لها من استغلال البعض لها لكونها "ست" بحسب وصفها، "الناس بتستغل الموقف إني ست وبيطبقوا ليا 20 جنيه في إيدي بعد النقلة وبرضا بالقليل وبقول أهو جبت تمن أكل بناتي"، تقول ناهد بصوت متهدج من الألم النفسي.

رغم ضآلة حجمها، باتت ناهد أو كما تعرف بين النساء في شارعها "أم دنيا"، متمكنة في حمل أشولة الرمل والطوب والأسمنت في العمارات ومواقع البناء، الذي لا ينم عن مهنتها الشاقة سوى تجاعيد الوجه وإرهاق العينين والبقع البنية الداكنة على ظاهر يديها، تأبى حرمان بناتها من التعليم مهما كلفها الأمر، مش عايزة أطلعهم من المدرسة، مش عايزة بناتي يطلعوا زيي ويدوقوا المرار زيي"، تجمع الجنيه فوق الآخر لتسدد مصاريف المدرسة لكل واحدة منهن كل عام، فما كان منها إلا أن ضافت إلى رصيد شقائها حملا آخر "بقيت بشيل عفش وأجهزة كهربائية، وزعت رقمي على الناس في المنطقة واللي عايز ينقل عفش بيطلبني".

الأم: من صغري وأنا شقيانة ونظرات الناس مبقتش أهتم بيها وربنا عالم بحالي

نظرات المارة في الشارع تخترق جسد الأم الثلاثنية كالسهام، لم تعير لهم بالًا، مرة تلو الآخرى حتى اعتادت الأمل، "قولت ربنا عالم بحالي"، اِلتهبت كُفوفها من شدة الحمولة التي تنقلها وتداعت عظام الكتف والظهر في جسدها، يتوافد عليها وجوه مرسوم على معظمها الذهول من مهنتها لا يكترثون للأزمة التي تعانيها.

الزمن يجلو الذاكرة، لم تعد تذكر الأم الثلاثينية تاريخ ميلادها ولا يوم زواجها، رغم أهمية الحدث في حياة أي فتاة، اعتادت على الشقاء منذ طفولتها، التي تتذكر منها حين كانت تعمل مع خالتها في أحد المستشفيات بصعيد مصر الذي انحدرت منه إلى العاصمة بعد زواجها، كانت طفلة صغيرة وتساعد في أعمال المسح والتنظيف لكسب قوتها، "شقيت كتير في حياتي أنا راضية بكل حاجة قاسمهالي ربنا وبتعب عشان بناتي، مش عايزة حد يحرجهم ويقولهم أمك عليها فلوس".

وهنت ناهد، رغم اعتيادها حمل الأوزان الثقيلة، أمام متطلبات بناتها فما كان منها إلا أن باعت الأسرة التي كانت تستقلي على أحدها لتستريح من عناء يوم شاق، الشعور الضاغط القاهر الذي يدفع حتى أقوى الأقوياء للبكاء، "عيالي بيناموا على الأرض بيعت السريرين عشان مقولش لحد هات فلوس، وبنتي بقت بتتكسف تقول لصحابتها تعالي ذاكري معايا"، تقول الأم في حسرة وقيلة حيلة كبلتها، وهي تكمل حديثها خلال لقاء "الوطن" بها وجلست على طرف مقعد "التروسيكل" وكأنها تعد نفسها للقيام في أي لحظة إذا طلبها أحد تسرع نحوه احتياجا للمال رغم تداعي أعضاء جسدها المنهك.

ما الضير في أن يتعلق الغريق بقشة، هكذا ناجت ناهد "الشيالة" نفسها ذات يوم، فاتجهت إلى الجهة المختصة لاستخراج أوراق معاش شهري يساعدها على مصاريف بناتها الخمس، إلا أن الأمر لم يكن يسيرا وكأن حياتها اعتادت الصعاب، "جيبت ورق يثبت حالتي قالولي بطاقتك تبع ميت عقبة وانا ساكنة في بشتيل"، مشوار تلو الآخر حتى ملت السيدة الثلاثينية التي لم تجد ما تنفقه من مال للمواصلات، "ده أنا بجيب لقمتهم بالعافية"، بحسب وصفها.

الأم تلجأ أحيانا لجمع الكرتون والزجاجات البلاستيك لبيعها بالكيلو وشراء عشاء لبناتها

أيام طوال تمر دون أن تجد الأم الثلاثينية حمولة تنقلهاعلى كتفيها، كثيرا ما تخلو الشوارع من موقع بناء يحتاج إلى نقل أشولة طوب ورمل، ونادرا ما يطلبها أحد لنقل أثاث بيته، فاتجهت إلى البحث في مقالب القمامة على الكرتون الصالح والزجاجات البلاستيك الفارغة لتبيعها بالكيلو في الأسواق، "بلف طول اليوم على حاجة أشيلها لو ملقتش شغل بنزل بليل ألم كرتون وأبيعه عشان أجيب عشا لعيالي".

تنهدت نفسًا ممدودًا بِعمقٍ، وكأنها تستجمع شجاعتها لمناشدة رئيس بمثابة أب بالنسبة لها، وما أن رتبت كلماتها التي تود أن توجهها للرئيس عبد الفتاح السيسي حتى قالت في نفس واحد: "بقول للرئيس السيسي عايزة اتستر، نفسي في الستر من عند ربنا، نفسي محدش يجي يخبط على بابي وأخلي عيالي متبصش لحد"، وانهمرت في بكاء طويل حزنا على حالها وخوفا من مستقبل لم تر له ملامح وهي تصارع كل شيء بمفردها وتسابق عقارب الساعة لسداد ديون متراكمة عليها، تود لو أن تسند رأسها قليلا على كتف يشاركها حِملها بعد غياب زوجها عنها.


مواضيع متعلقة