على خطى الفراعنة.. «عاطف» 32 سنة في صناعة ورق البردي: بعلمها للأجيال

على خطى الفراعنة.. «عاطف» 32 سنة في صناعة ورق البردي: بعلمها للأجيال
غرفة من الطوب اللبن مُلحقة بمنزله، تخلو من الأثاث، إلا مقعد خشبي يجلس عليه عاطف علي، ساعات طويلة من نهار يومه، غارقًا بين أكوام من نبات البردي، يأتي به من الحقل الواقع على مرمى بصره، يبدأ في تقطيع عيدانه ويرصها جنبًا إلى جنب، ثم يبدأ في كبسها جيدًا، فتتجلى ندوب أصابته كثيرًا وقت الحصاد، وتركت أثارها في راحة يديه، خطوات مرتبة ينفذها الرجل الخمسيني بصبر شديد، حتى يخرج من تحت يديه أوراق بيضاء لا تُغري إلا من أحب هذا الفن.
البردي يزرع في الشتاء ويحصد بعد 6 أشهر
وسط غيطان نبات البردي المزروعة، في قرية «القراموص» بمحافظة الشرقية، نشأ «عاطف» منذ نعومة أظافره، شغفته حبًا وبات بارعًا في زراعتها وحصادها، حتى إذا اشتد عوده، وبدأ منذ عام 1988 يساعد والده وأجداده في صناعتها، «النبات عبارة عن عيدان بيتزرع في فصل الشتا، وبعد 6 أشهر بيتم حصاده، وبين العود والتاني مسافة متر في الأرض، وبعد الحصاد نبدأ تقطيعه حسب المقاس اللي عايزينه»، يروي عاطف رحلة تصنيع أوراق البردي في بداية حديثه لـ«الوطن»، بينما انشغلت يداه بالرسم على أحدها.
نقع نبات البردي في أطباق مياه وكلور وبطاس
صنعة يعود عمرها إلى 7 آلاف سنة، اندثرت من كل مكان، إلا قرية القراموص، إذ اشتهرت بين جيرانها من القرى بـ«قرية الأسرة المنتجة»، «عندنا الأسرة كلها بتشتغل في الصنعة دي حتى البنات والستات، بيقعدوا يرصوا العيدان جنب بعض»، بجانبهم أطباق ثلاثة، أحدهم مملتئ بالماء والآخر به كلور والثالث به بطاس، وبحسب رواية عاطف، «بعد نقع النبات في أطباق المياه والكلور والبطاس، بنطلعه ونبدأ نرص واحدة بالطول وواحدة بالعرض».
دون إضافة أي مواد لاصقة، تلتحم أوراق النبات ببعضها بعد تركها فترة في الهواء وكبسها جيدا حتى تبدو في شكلها الأخير كورقة بردي جاهزة للرسم والكتابة عليها، ليبدأ عاطف في خط ملامح رسمته، يغوص بخياله في رحلة عبر الزمن تعود به إلى إرث تركه لنا أجدادنا المصريون القدماء، «برسم أشكال فرعونية وحروف هيروغليفية»، يبرز ملامح رسمته بألوان الماء الأصلية، يحاكي تلك المنقوشة على جدران المعابد تعلمها على يد أحد أساتذة الفنون الجميلة في قريته، حتى بات بارعًا بها، وذاع صيته، حيث يأتيه الزبائن من كل حدب وصوب.
الأجانب يحبوا الفرعوني والعرب يشتروا بردي القرآن
من قريته إلى مقر المرسم الخاص به في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة، يأتي الرجل الشرقاوي على فترات متفاوتة بحمولة أوراق البردي داخل سيارته التي تفوح منها رائحة التاريخ دائًما، يعكف على رسم كل ورقة بعناية بالغة يقصد بكل واحدة زبون خاص، «الأجانب بيحبوا الأشكال الفرعوني، والعرب بيحبوا يشتروا البردي اللي مرسوم عليه آيات القرآن، كل زبون وليه طلبه»، يطوف المحافظات السياحية لترويج صنعة يده معتزًا بصناعة أبناءه وأجداده.
الماء والكلور والبطاس، كلمة السر في اختلاف لون أوراق البردي الأبيض مصنوع على الطريقة الباردة بوضعه في أطباق المياه والكلور والبطاس، أما البني، يتخذ لونه من غليه في الماء لمدة تصل إلى 24 ساعة، كلاهما يجذب أنظار الزبائن بعد رسمه وتلوينه وإن كان الأخير هو الخيار الأقرب لقلوب السائحين الأجانب، لكونه يحاكي أوراق المصريون القدماء منذ 7 آلاف سنة.
لم يخل منزل في «القراموص»، إلا وتزينت جدرانه بأوراق البردي المرسومة، عادة حرص عليها عاطف في مرسمه الخاص بمحافظة الجيزة، يستقبل الراغبين في التعلم من حوله، وقد اكتست جدران المكان بالبرديات الملونة، يعلم الأجيال الصغيرة صنعة أجدادهم خوفًا عليها من الاندثار،«بروح أدرس محاضرات كمان لطلبة الفنون عشان الصنعة دي تفضل موجودة»، بحسب روايته.