"رشيدة" تناطح تجار الخردة خلفا لزوجها.. الست الوحيدة في سوق العصر

كتب: سمر صالح

"رشيدة" تناطح تجار الخردة خلفا لزوجها.. الست الوحيدة في سوق العصر

"رشيدة" تناطح تجار الخردة خلفا لزوجها.. الست الوحيدة في سوق العصر

محال متجاورة ذات أبواب صاج متآكلة نال الصدأ والعوادم منها كما نال الزمن من ملامح أصحابها، تشي للمارة بالطريق من الوهلة الأولى بحال السوق الأشهر في مصر لبيع "الخردة"، أجولة مخلفات حديدية مهملة فتحت بيوتًا وصنعت تجارًا معروفين، في انتظار من يُقدِّر قيمتها ويأتي لشرائها، عالم للرجال فقط لغته الوحيدة "القوة"، استطاعت "رشيدة" أن تصنع لنفسها اسمًا فيه، وأجبرت الجميع على احترامها وباتت كلمتها كالسيف تناطح الرجال بصوتها في المزادات، تكسب تارة وتخسر تارة أخرى وما بين ذلك تكسب سمعتها التي وصفتها خلال حديثها لـ"الوطن" بـ"الجنيه الدهب".

اعتادت فتح أبواب المحل منذ نحو 32 عاما خلفًا لزوجها بعد وفاته

بخطواتٍ بطيئة نتيجة وهن جسدها، تخرج الحاجة "رشيدة خميس" صاحبة الـ67 عاما من بيتها في موعدٍ ثابت يوميًا، يكاد أصحاب المحال المتجاورة يضبطون عليه عقارب ساعتهم من شدة التزامها، تقطع مسافة قليلة حتى تصل إلى عتبة محلها الصغير الذي نال الزمن من واجهته، اعتادت فتح أبوابه منذ نحو 32 عاما خلفًا لزوجها بعد وفاته، أجبرتها ظروفها على التخلي عن أنوثتها التي لم يتبقَ من ملامحها إلا طرحة مرصعة ببعض الفصوص اللامعة ترتديها على رأسها: "جوزي مات وأنا عندي 35 سنة وسابلي عيال صغيرة كان لازم أنزل واشتغل مكانه عشان أصرف عليهم".

"سمعتي زي الجنيه الدهب اللي بيكلمني كلمة بوقفه عند حده"، بنبرة صوت صارمة لخصت السيدة العجوز علاقتها بـ"حيتان" سوق الخردة من الرجال، التي اتخذت قرارًا بالعمل فيه في ريعان شبابها، ما العيب في أن تجلس في مجالس الرجال تباشر حركة العمال والبضاعة، هكذا ناجت "رشيدة" نفسها ذات يوم، فوضعت حدودًا بينها وبينهم في التعامل وأجبرت الجميع على احترامها، "لما تحافظ على كرامتك الناس كلها تحترمك"، بحسب تعبيرها.

رشيدة: زمان كان في بيع وشرا ومزادات والزبون كان بيجي يقدر قيمة الحاجة 

ارتعاشة خفية بأصابع يدها تتضح أثناء تلويحها وسط انخراطها في حديثها تفضح هدوء العجوز التي بات اسمها معروفًا بين تجار الخردة بسوق العصر، اشتعل رأسها شيبًا ولا تكل من عملها يومًا، تجلس على كرسي خشبي قديم مثبتة أرجله بمسامير تترقب صوت نعال المارة ربما يكون الزائر أحد الزبائن قاصدًا إياها لشراء قطعة خردة، وبتنهيدة تسترجع سنوات عمر ضاع وسط قطع الحديد ورائحة الصدأ.

"زمان كان في بيع وشرا ومزادات والزبون كان بيجي يقدر قيمة الحاجة ويشتري"، غير أن هذا لم يعد له أثرًا في الفترة الحالية، بحسب رواية السيدة الوحيدة وسط تجار الخردة في سوق العصر،السوق الذي تدب فيه الحركة يوميًا من التاسعة صباحًا لم يعد يغري الزبائن ممن طالهم الغلاء ولا يختلف حالهم عن حال البائعين.

المحل أصبح يحتوي على مواسير بالية وبوابة حديدية كبيرة في انتظار من ينفض غبار الركنة عنها 

حال الحاجة الستينية المعروفة بين أصحاب المحلات بـ"أم شادي" بات خاويًا من الخردة إلا من مواسير بالية وبوابة حديدية كبيرة في انتظار من ينفض غبار الركنة عنها ويعرض عليها شرائها، ذلك الركود الذي أصاب المهنة وأقعد الكثيرين في منازلهم، لم يثبط عزيمتها عن فتح أبواب المحل يوميًا، "باجي أقعد أسلي نفسي بدل قعدة البيت ولو جالي مكسب يبقى رزق وخير"، بحسب تعبيرها.

لم تفسد حياة"الخردة" علاقة الأم بأبنائها، أحسنت تربيتهم، باتت لهم أمًا حنونًا رغم شدتها وسط الرجال، وأبًا مدبرًا للمال، حتى في أحلك الظروف، أكملت تعليمهم واطمأنت بزواجهم، كل واحد منهم شق طريقه في حرفة أخرى تاركين إرث والدهم وما تبقى من بضاعته بين يديها، وعزمت هي على ألا تترك المهنة إلا برحيلها. 


مواضيع متعلقة