السودان والورطة الإثيوبية

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

التغيير فى المواقف تجاه قضية مهمة تتعلق بالحياة ودون أى مبرر قوى يمثل مشكلة لصاحبه تضر بمصالحه الحيوية. هذه بديهية لا تتوقف عند موقف بذاته، بل تُقيم بوجه عام مسألة التردّد فى حسم الأمور، وتبديل المواقف، وعدم وضوح الرؤية بعيدة المدى، لا سيما فى قضايا تمس حياة الناس ووجودهم مثل قضية المياه.

لا أدرى هل ينطبق هذا التقييم العام على الموقف السودانى من مفاوضات سد النهضة الإثيوبى أم لا، لا سيما تبدّل مواقفه تجاه المفاوضات بين الرفض كما حدث فى 11 نوفمبر الماضى، أو بين تأييد استئناف تلك المفاوضات فى الأسبوع المقبل، وفقاً للتفاهم الذى تم بين رئيسى الوزراء فى كل من السودان وإثيوبيا قبل يومين فقط. ونلاحظ هنا أن تبرير رفض السودان للمفاوضات قبل أكثر من شهر تعلق بأن نهج المفاوضات لم يتغير، وأنه لم تتح فرصة الاستفادة من خبراء الاتحاد الأفريقى المشرف على هذه المفاوضات الثلاثية. وحين تقرّر العودة للمفاوضات لم يُذكر أى سبب من قبيل تحقّق شرط تعديل موقف الاتحاد الأفريقى، أو أنه تعهد مثلاً بأن يكون أكثر حضوراً ومشاركة وتسهيلاً للمفاوضات. لا سبب مُعلناً سودانياً أو إثيوبياً. بيد أن تصريحات وزير الرى السودانى توحى بأن هناك إدراكاً جديداً لما يمثله السد الإثيوبى من مخاطر حقيقية على السودان، وأن كل الوعود الإثيوبية السابقة بعدم الإضرار بالسودان ثبت عكسها تماماً.

حين رفض السودان قبل أربعين يوماً المشاركة فى جولة مفاوضات، ارتفعت الأصوات فى الداخل السودانى نفسه بأنه يرفض منح إثيوبيا مزيداً من الوقت لاستكمال بناء السد دون الرجوع إلى دولتى المصب، ويمنحها فرصة للملء الثانى منفردة الصيف القادم، الأمر الذى يُضعف موقف السودان ويجعله تحت رحمة أديس أبابا إلى ما شاء الله. والمرجح أنه سوف تعقد جلسة مفاوضات، والمرجح أيضاً أنها لن تحقق شيئاً، خاصة أن رئاسة جنوب أفريقيا للاتحاد الأفريقى شارفت على الانتهاء، وستأتى الكونغو لتحمل مسئولية رئاسة الاتحاد طوال عام 2021. ومنطقياً سيمر بعض الوقت لحين تتعرّف الرئاسة الجديدة على مسيرة المفاوضات وبلورة رؤية لإدارة هذا الملف المعقّد. وهكذا يتعطل التفاوض فترة تلو أخرى دون نتيجة تذكر، ويزداد الموقف تعقيداً.

لقد دخلت إثيوبيا فى دورة عنف عرقى فى تيجراى الشهر الماضى. الإعلانات الرسمية تؤكد إتمام السيطرة على الإقليم وأن البحث ما زال جارياً عن قيادات التمرد التيجرانيين، وصولاً إلى التخلص منهم أو محاكمتهم. وفى المقابل بيانات محدودة تؤكد استمرار المقاومة التيجرانية العسكرية والرفض القاطع لمثل هذه النهاية. ولا شك أن غموض الموقف فى إقليم التيجراى يلعب دوراً فى التأثير على الموقف الإثيوبى تجاه مفاضات السد الثلاثية، فالانتصار ليس كاملاً، وأسباب تفجر الموقف مرة أخرى ما زالت قائمة، ناهيك عن الأزمة الإنسانية التى أصابت التيجرانيين، والتى دفعت 950 ألفاً منهم إلى الرحيل عن أماكن معيشتهم، فضلاً عن نحو 50 ألفاً دخلوا الأراضى السودانية، وكلهم يعيشون أوضاعاً إنسانية مزرية، وفى ما يتعلق بالسودان فهو ليس بحاجة إلى لاجئين على أراضيه، وليس بحاجة إلى استمرار أسباب التوتر والصراع فى الإقليم الإثيوبى المجاور لأراضيه. وقبل زيارة رئيس الوزراء حمدوك إلى أديس أبابا تردد إعلامياً أن أحد أسباب الزيارة هو عرض الوساطة بين حكومة أبى أحمد وقادة التمرد التيجرانيين، وهو عرض تم رفضه بحسم، باعتبار أن القتال حسب المصادر الرسمية قد توقف، ولا داعى لأى تدخل سودانى أو غيره. فى حين تم الاتفاق فوراً على العودة إلى مفاوضات السد، وعقد اللجنة المشتركة للحدود والمقرر لها أن تنتهى من أعمالها فى مارس 2021، ودعوة دول مجموعة الإيجاد السبعة إلى الانعقاد لبحث الأمن فى الإقليم وتداعيات الحرب فى إثيوبيا. والبند الثانى لم تؤيده المصادر الإثيوبية، الأمر الذى يضيف قدراً من الغموض حول النتائج الحقيقية التى تم التوصل إليها فى مباحثات حمدوك وأبى أحمد، التى استمرت نحو ساعتين فقط غادر بعدها حمدوك إلى الخرطوم.

الملابسات التى أحاطت بتلك الزيارة وما نتج عنها من اتفاقات تدل على أن الجانبين يواجهان لحظة الحقيقة، فمن جانب السودان هناك ميل نحو توظيف الأزمة السياسية والاقتصادية التى تمر بها إثيوبيا من أجل حسم عدد من الملفات الرئيسية؛ أولها ترسيم الحدود فى منطقة الفشقة التى تُغير عليها ميليشيات من الأمهرا تُعرف باسم «الفشتة»، وتستولى على أراضٍ سودانية تحت حماية الجيش الإثيوبى، والثانى إتاحة الفرصة لعودة اللاجئين التيجرانيين إلى أراضيهم، وهو ما يتطلب تنسيقاً مع أديس أبابا يبدو غائباً تماماً، وغالباً لا ترحب به أديس أبابا رغم مسئوليتها الإنسانية والقانونية تجاه مواطنيها من كل الأعراق المكونة للمجتمع الإثيوبى. والثالث إقناع الجانب الإثيوبى بقبول مبدأ الاتفاق الملزم للملء والتشغيل، منعاً لأضرار مائية وسيادية أصبحت مؤكدة تماماً، وإلا فالبديل هو التحكيم الدولى، حسب تصريحات وزير الرى السودانى.

بالنسبة لإثيوبيا، فليست هناك مؤشرات على إعادة النظر فى السياسة المتبعة بشأن مفاوضات سد النهضة، أو بالنسبة لاستعادة الاستقرار فى إقليم التيجراى، أو تجاه سياسة قضم الأراضى السودانية، بحجة أن القائمين بهذا السلوك الاستعمارى مجرد ميليشيات ولا يمثلون الحكومة. وبالتالى يصعب توقع أى انفراجات كبرى فى الملفات الثلاثة أو واحد منها على الأقل. وهو ما يضع عبئاً مباشراً على السودان ونسبياً إريتريا. أما التعنّت الإثيوبى فى مفاوضات السد، فيعنى أن المستقبل ملىء بالغيوم التى لا تنفع معها السياسة وحسب، وقد تتطلب إسهامات أخرى حاسمة.

مجمل هذه المتغيرات يصب فى مسار غموض، قدر كبير منه متعمّد إثيوبياً، وغالباً ما سيتم توظيف الاستمرار فى بناء السد من أجل شحن وتعبئة الرأى العام الإثيوبى وراء مقولة النيل الأزرق أصبح بحيرة إثيوبية لا مجال للتنازل عن مياهها للغير، أى للسودان ومصر. وبالتالى التغطية على الأزمة الاقتصادية القاتمة التى تضرب البلاد وتعكس بدورها سوء التصرف وغياب القرار الرشيد.

الصورة على هذا النحو تضر بالاتحاد الأفريقى الذى لم يستغل قدراته فى الضغط على إثيوبيا للتجاوب مع مفاوضات السد الثلاثية بحُسن نية ومراعاة حقوق دولتى المصب. كما تضر بإثيوبيا نفسها، فهى الآن تدخل فى باب الدول المرشّحة لدورة عنف عرقى ومواجهات مع الجيران، وتنكر لاحتياجات وحقوق قسم كبير من الشعوب الإثيوبية. كما تطرح أسئلة كبرى على دولتى المصب بشأن جدوى المفاوضات.