قطر وتركيا.. والصراع الإعلامى

لقد شهدت منطقة الشرق الأوسط تغيرات فارقة وحاسمة منذ مطلع العقد الماضى، وهى تغيرات لعب الإعلام فيها دوراً مؤثراً ومتصاعداً، حتى ظن البعض أن هذا الدور فاق فى قدراته التأثيرية ما تفعله القوة الصلبة وتقدر عليه. لم ينته مشروع التثوير وإشاعة التمرد وخلق حالة الفوضى فى المنطقة، والدليل على ذلك يمكن إيجاده فى الخطاب الإعلامى الصادر عن المنابر الإعلامية المعادية، التى لم تتوقف لحظة عن بث الدعاية السوداء الهادفة إلى صناعة الفتنة وجلب الخراب. يمثل المشروع الإعلامى القطرى - التركى قاعدة الهجوم الرئيسية على وعى الجمهور العربى، إذ يتأسس هذا المشروع على قاعدة أيديولوجية تقليدية، تنطلق من موقف متطرف ذى سند دينى، ينتج عنه خطاب يصور للجمهور المستهدف أنه يدعو إلى «نصرة الإسلام» والذود عن حياضه، ويتبنى قضايا الأمة الإسلامية وعلى رأسها بالطبع القضية الفلسطينية ومجابهة إسرائيل. لكن التناقض يظهر عند تحليل العلاقات الإسرائيلية مع كل من قطر وتركيا؛ إذ تبرز حقيقة واضحة لا يمكن إنكارها رغم كل محاولات التعتيم عليها؛ حيث ترتبط الدولتان بعلاقات قوية بإسرائيل، وتنشأ أنماط تعاون وتفاهم مشتركة بين الجانبين، وصولاً إلى مفهوم العلاقات الاستراتيجية كما فى العلاقات بين أنقرة وتل أبيب. ورغم ازدهار هذه العلاقات فى الحالتين القطرية والتركية، فإن وسائل الإعلام التابعة للدولتين الأخيرتين تتبنى خطاباً مزدوجاً إزاء إسرائيل، وتصور للجمهور العربى أن الدوحة وأنقرة معاديتان للدولة العبرية وداعمتان للقضية الفلسطينية وهو أمر يناقض الواقع ولا يقوم عليه أى دليل. وبموازاة الخطاب الزاعق والمتوسل بالشعارات التقليدية، تزدهر العلاقات مع إسرائيل، ويتم استخدام القضية الفلسطينية من أجل تعزيز مراكز نفوذ تركيا وقطر. لقد أدركت الدوحة وأنقرة أن تنفيذ مشروع العدوان على المنطقة، عبر تفتيت دولها الرئيسية وإسقاط أنظمتها واستباحة أمنها الوطنى، لن يتأتى من دون القضاء على التماسك الوطنى الداخلى فى تلك الدول من جانب، وتفتيت عرى تحالفها واتساق سياساتها من جانب آخر. ولم يكن هناك سلاح يمكنه التأثير فى قوة هذه الدول وقدراتها الضخمة والمتنوعة سوى سلاح التزييف والفبركة والاصطناع.

يشير التحليل الدقيق لآلة الإعلام التركية والقطرية إلى أن تلك الآلة تعمل وفق استراتيجية معدة بإحكام لتنفيذ أهداف سياسية واستراتيجية يمكن من خلالها القضاء على الدول العربية الرئيسية وتفتيتها وصولاً إلى ضرب مشروعات الدولة الوطنية وتهيئة الأرض لمشروع الخلافة المزعومة وخلق كيانات طائفية تنخرط فى احتراب أهلى وفوضى ودمار. بدأت قطر مشروعها مبكراً فى عام 1996 مع انطلاق شبكة «الجزيرة» الإعلامية، التى فتحت باباً واسعاً لعناصر تنظيم «الإخوان»، واعتمدت خطاباً تثويرياً وتحريضياً. وعبر موارد مادية وكوادر مدربة وأنماط إنتاج متقدمة، استطاعت «الجزيرة» أن تتمركز سريعاً فى الواقع الفضائى العربى، وبات لها جمهور انخدع بمقولاتها ومنحها قدراً من المصداقية. راحت «الجزيرة» بعد تمركزها كوسيلة إعلام رئيسية مهمة قادرة على الوصول إلى كل البيوت العربية تسفر عن وجهها المشين، عبر ارتكاب كافة الأخطاء التى شخصتها الأكاديميات الإعلامية الدولية. اعتمدت «الجزيرة» على البث المتكرر للأكاذيب والافتراءات تحت ستار حرية الرأى والتعبير ومنح صوت لمن لا صوت له، وفى غضون ذلك مارست تشويه الحقائق، واختلاق الوقائع، والتحريض على العنف، وإثارة الكراهية، والفبركة والاصطناع، والنزع من السياق، والاختيار المغرض للمصادر. لم تكن الاستجابة العربية للأخطار التى تُصدّرها «الجزيرة» على المستوى المطلوب فى البداية؛ وهو الأمر الذى مكنها من كسب أرض واسعة فى ساحة الوعى العربية. وعندما أضحت «الجزيرة» أحد مصادر الاعتماد المهمة لدى قطاعات من الجمهور العربى فيما يخص الشئون الداخلية والخارجية، راحت تخلق واقعاً زائفاً مثّل واقعاً بديلاً فى عديد الدول العربية، واستطاعت من خلاله أن تسقط عواصم وتفتت دولاً. أيدت «الجزيرة» كل حراك استهدف تدمير الدولة الوطنية العربية، وعززت كل نزعات التخريب، وعارضت جمع السلاح غير الشرعى، وصورت الإرهابيين فى صورة الأبطال والثوار. مع وصول حزب العدالة والتنمية فى تركيا للحكم فى مطلع 2003، بدأت خطة تطوير الإعلام التركى ليلعب دوراً مماثلاً إزاء المنطقة العربية. راحت أنقرة تضخ موارد ضخمة فى وكالة أنباء الأناضول، وتنشئ منظومة إعلامية تتحدث بالعربية لمخاطبة جمهور المنطقة، وتنفق الملايين على صناعة الدراما التى استهدفت تقديم صورة براقة لما يجرى فى تركيا من جانب، واستعادة أمجاد الخلافة الإسلامية المزعومة من جانب آخر، مع تصوير الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بوصفه «الخليفة المنتظر». ولم تكتف تركيا بهذا الاقتراب المثير للاهتمام عبر أدواتها الإعلامية المباشرة، لكنها بموازاة ذلك أطلقت عدداً من الأدوات الإعلامية العربية التابعة لتنظيم «الإخوان» من أراضيها، ووفرت لها الحماية والموارد والمساعدة التقنية والإشراف السياسى، لكى تمارس دورها التخريبى عبر مخاطبة الجمهور العربى من إسطنبول، لتحريضه على التمرد والتخريب وممارسة العنف ضد الدول العربية المناوئة لمشروعها العدوانى. تعتمد الخطة الإعلامية القطرية - التركية على استغلال تداخل نطاقات الترددات الفضائية بين الأقمار الاصطناعية فى المنطقة للنفاذ إلى الوعى الوطنى فى الدول المستهدفة عبر بث سمومها من خلال الفضائيات. وإلى جانب القصف الفضائى، وظفت الدوحة وأنقرة آليات وسائل التواصل الاجتماعى من أجل الوصول إلى قطاعات واسعة فى الجمهور العربى الذى يسجل أحد أكبر معدلات التفاعل مع «السوشيال ميديا» على الصعيد العالمى. تعمل اللجان الإلكترونية التابعة للدولتين على بث الأكاذيب والأخبار المفبركة والدعاية السوداء على مدار الساعة من خلال تنظيم محكم، بشكل أدى إلى إبقاء ملايين العرب أسرى لواقع مصطنع لا يمت بصلة للحقيقة. ستكون الدولة الوطنية العربية مطالبة ببذل المزيد من الجهد من أجل الحفاظ على وعى جمهورها والمحافظة على مسئوليتها الإعلامية تجاه مواطنيها، ولن يحدث ذلك إلا من خلال جهود إعلامية ذكية ومستدامة ودؤوبة. تقوم تلك الجهود على مواصلة فضح أكاذيب وافتراءات الآلة الإعلامية التركية - القطرية المشتركة، بموازاة تبنى أنماط أداء إعلامية مهنية ونزيهة. وكلما كان الإعلام العربى المناهض للمشروع العدوانى القطرى - التركى منفتحاً وشفافاً ومهنياً، زادت معدلات اعتماد الجمهور عليه، وتعززت قدراته على المواجهة فى تلك المعركة الصعبة.