مراسلات "كلينتون"ومأزق الإخوان
جاء الإفصاح عن بعض مراسلات هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، إبان أحداث يناير 2011 فى مصر، ليثبت أمراً لم نشك فيه لحظة حول العلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة والتنظيمات المسماة بالإسلامية فى المنطقة العربية، وفى مقدمتها تنظيم الإخوان فى مصر. ومن ناحية أخرى، رفعت تلك المراسلات الغطاء عن الدور المحورى والمغرض والمشبوه للإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس السابق باراك أوباما فى اندلاع أحداث الربيع «الأمريكى والتركى والإيرانى والإسرائيلى»، والذى سُمى زوراً وبهتاناً «الربيع العربى».
كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة قد فشلت منذ الخمسينات من القرن الماضى فى السيطرة على هذه المنطقة، وجعلها تابعة للسياسة الأمريكية، سواء فى حقبة الحرب الباردة، أو فى حقبة الهيمنة الأمريكية؛ وسواء من خلال الإغراءات بالمعونات أو المنح الاقتصادية والعسكرية، أو من خلال الحديث عن سلام شامل وشرق أوسط جديد (من خلال مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو والحكم الذاتى للفلسطينيين فى الضفة وغزة)؛ أو من خلال دعم أعداء العرب (إسرائيل وتركيا وإيران الشاه)، أو التدخل الأمريكى العسكرى المحدود (فى لبنان وليبيا فى ثمانينات القرن الماضى)، أو التدخل العسكرى الواسع (الكويت والعراق عام 1991)، أو الاحتلال العسكرى المباشر (العراق عام 2003).
وقد تحولت الولايات المتحدة الأمريكية نحو ما أطلقت عليه كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية ومستشارة الأمن القومى فى عهد الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن، «الفوضى الخلاقة»، لتأسيس نظام إقليمى جديد، مغاير لذلك الذى اضطلعت كل من بريطانيا وفرنسا بدور محورى فى تأسيسه بالمنطقة، قبل الحرب العالمية الأولى، وفى ما بين الحربين.
ووجدت الولايات المتحدة ضالتها فى الأحزاب والتنظيمات «الإسلامية»، كى تساعدها فى القفز إلى السلطة بعيد هذه الفوضى، غير الخلاقة بالطبع، متحالفة مع الولايات المتحدة التى مهّدت لتلك الجماعات السبيل ودعمتها كى تحقق أحلامها فى السيطرة على الحكم فى القاهرة وتونس ودمشق وطرابلس الغرب وصنعاء، وغيرها من العواصم العربية. ومن ثم، يتحقق للولايات المتحدة فى عهد أوباما ووزيرة خارجيته كلينتون ما عجزت عنه الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ أيزنهاور فى خمسينات القرن العشرين وحتى جورج بوش الابن فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
لم تكن هذه الحقائق خافية على المتخصصين فى الشئون العربية والأمريكية، فالحديث عن «الفوضى الخلاقة»، وعن الشرق الأوسط «الجديد والكبير والموسع»، ورد فى كتابات وتصريحات وخطابات لكبار المسئولين الأمريكيين، قبل الربيع المزعوم بعدة سنوات.
ولم تخفِ الإدارة الأمريكية فى عهد أوباما ابتهاجها بتمهيد السبيل للتنظيمات «الإسلامية» للقفز على السلطة؛ بل وصلت الوقاحة إلى ذروتها فى مطالبة الرئيس الأمريكى الرئيس المصرى بمغادرة السلطة، وهو التصريح الذى هلل له للأسف «أنصار الربيع وسدنته» من «الثوار المصريين» من ذوى الاتجاهات «الإسلامية والليبرالية ومن الاشتراكية الثورية»!!!
كان التحالف بين الإخوان فى مصر والإدارة الأمريكية للقفز إلى السلطة واضحاً جلياً. فمن ناحية، كان المؤتمر الصحفى الشهير الذى عقده «قضاة الإخوان» فجراً بتوقيت القاهرة للإعلان غير الرسمى عن فوز مرشحهم بالرئاسة، موجهاً بالأساس نحو الحلفاء فى الإدارة الأمريكية فى واشنطن، حيث كان التوقيت ملائماً لهم. ومن ناحية أخرى، كررت كلينتون مطالبتها المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسليم السلطة سريعاً للرئيس «المدنى» المنتخب، وكانت تقصد مرشح الإخوان، باعتبار منافسه ذا خلفية عسكرية!!!. ومن ناحية ثالثة، أوعزت الإدارة الأمريكية إلى الرئيس التركى، حليفها الموثوق به وشريكها فى الربيع المزعوم، بالمطالبة علناً وبوقاحة منقطعة النظير، بتسليم السلطة لمرشح الإخوان، قبل الإعلان الرسمى عن نتيجة جولة الإعادة. ومن ناحية رابعة، تغاضت الإدارة الأمريكية الديمقراطية، نصيرة الحريات وحقوق الإنسان، عما سماه الرئيس الإخوانى زوراً وبهتاناً «إعلاناً دستورياً»، منح نفسه بمقتضاه سلطات لم يحظَ بها أىٌّ من حكام الدولة المصرية المستقلة، منذ الملك فؤاد وحتى الرئيس مبارك. ومن ناحية خامسة، راهن الإخوان على تأييد الإدارة الأمريكية لبقائهم فى السلطة، وتعاملوا بصلف واستعلاء مع المطالب الشعبية بإجراء تعديلات على مشروع دستور 2012، ثم على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة عام 2013، اعتماداً على الدعم الأمريكى غير المحدود. ومن ناحية سادسة، أرسل الرئيس الإخوانى إلى رئيس دولة إسرائيل رسالة مفعمة بمشاعر الود، وختمها بوصف نفسه «مخلصكم الوفى»، حرصاً منه على استرضاء حلفائه الأمريكيين. ومن ناحية سابعة، اعتصم أنصار الإخوان فى رابعة والنهضة وقطعوا الطرق، أملاً فى «تدخل أمريكى مزعوم» يعيد رئيسهم إلى السلطة، ظناً منهم أن مصر مثل بعض دول أمريكا الوسطى والجنوبية التى حدث فيها ذلك؛ أو أملاً فى الانزلاق إلى حرب أهلية كما حدث فى ليبيا وسوريا واليمن. ومن ناحية ثامنة، ناصبت إدارة أوباما النظام الجديد فى مصر العداء حتى غادرت السلطة غير مأسوف عليها نهاية عام 2016.
ورغم كل تلك الدلائل الواضحة على التحالف الإخوانى الأمريكى، فقد استمرأ تنظيم الإخوان، منذ الإطاحة به من السلطة عام 2013 فى مصر، فى تصريحات قياداته المقيمة فى قطر وتركيا والمدن الأوروبية والأمريكية، وعبر قنواته الإعلامية، الحديث المزعوم عن التأييد الأمريكى لنظم «بن على ومبارك والقذافى وصالح»، وعن أن وصول الإخوان إلى السلطة لم يصادف هوى لدى الولايات المتحدة، وأن الأخيرة قد أيدت الإطاحة بهم من السلطة عام 2013.
وقد أسقط فى يد الإخوان مع نشر مراسلات كلينتون التى تثبت للرأى العام المصرى والعربى الدور الأمريكى المشبوه فى الربيع المزعوم، وفى قفز الإخوان على السلطة فى لحظة سوداء فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وفى اندلاع حروب أهلية فى كل من ليبيا وسوريا واليمن، ما زالت مستعرة منذ قرابة عشر سنوات.
كان كل هذا متسقاً مع «الفوضى الخلاقة»، التى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى من خلالها إلى انبثاق نظم «إسلامية» متحالفة مع الولايات المتحدة، تحقق لها الحلم الذى طال انتظاره فى تأسيس شرق أوسط «جديد أو كبير أو موسع أو معدل أو مفصل»، تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، بالتعاون مع حلفائها الإقليميين من غير العرب، ومع نظم تقودها تنظيمات سياسية تستخدم الإسلام وسيلة للسيطرة على السلطة. ومن ثم، لقد وقع تنظيم الإخوان فى مأزق حقيقى، حيث كشفت مراسلات كلينتون عن حقائق سعت الأبواق الإخوانية طويلاً لإخفائها، بل ظلت طوال سبع سنوات تقدم رؤية زائفة أبعد ما تكون عن الواقع الأليم الذى فضحته مراسلات صديقتهم وزيرة الخارجية فى إدارة أوباما التى أوصلتهم إلى السلطة، وسعت لإبقائهم فيها أطول فترة ممكنة، رغبة فى تعظيم المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها الإقليميين من غير العرب، وبالطبع على حساب الشعوب العربية.