قرار الإمارات والمصلحة الوطنية للدولة العربية (1)

أثار قرار دولة الإمارات العربية المتحدة بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ردود فعل صاخبة داخل المنطقة العربية وخارجها. وقد تباينت ردود الفعل داخل المنطقة ما بين مستنكرة ورافضة ومرحّبة، وفقاً للتوجهات السياسية للدول والقوى السياسية والأفراد. ومن البدهى أن تتباين وجهات نظر المحللين والمراقبين عند تقييم الآثار المحتملة لأى قرار سياسى، بيد أن المثير للدهشة أن يدّعى طرف ما أن من حقه أن يفرض «وصاية» على حق دولة فى تبنِّى قرار يرى صانعو القرار بها أنه يصب فى مصلحة هذه الدولة. وتعبّر تلك المواقف عن معضلة دائمة فى السياسة العربية منذ استقلال الدول العربية وتأسيس النظام العربى. وتتمثل تلك المعضلة فى عدم التعامل مع كل دولة عربية باعتبارها دولة وطنية مستقلة ذات سيادة من حقها أن تتخذ ما تشاء من قرارات، وليست مطالبة بالحصول على إذن من أحد قبل اتخاذ قراراتها. أكثر من هذا، لا تقبل أى دولة عربية، ممن تتهم غيرها بالعمالة أو بالخيانة، تدخلاً من أحد، وتمارس حقها المشروع فى تبنِّى السياسات واتخاذ القرارات التى تراها محققة لمصالحها. تظن بعض الدول العربية أن من حقها أن تُلزم الدول العربية الأخرى بوجهات نظرها، ولا تجد أدنى غضاضة فى اتهامها باتهامات مثل «الخيانة» أو «العمالة»، فى حالة اتباعها سياسات أو اتخاذها قرارات لا تتطابق مع وجهات نظرها.

ويزخر التاريخ العربى الحديث والمعاصر بالعديد من الأمثلة على مثل ذلك التناقض بين مواقف الدول العربية، سواء تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية أو بغيرها. لقد قبلت كل من مصر والأردن القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن عام 1967، ورفضته كل من سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، اللتين كالتا اتهامات حادة لكل من مصر والأردن. وعندما قبل عبدالناصر مبادرة روجرز عام 1970 تعرّض لهجوم شديد لا سيما من بعض القوى الفلسطينية، ومن إذاعة «صوت فلسطين» التى كانت تبث من القاهرة!! وبالرغم من التنسيق التام بين مصر وسوريا فى حرب أكتوبر عام 1973، فقد تباينت مواقف كل منهما حتى قبل انتهاء الحرب وبعد انتهائها، سواء فيما يتعلق بتطور العمليات العسكرية على الجبهتين المصرية والسورية، أو باتفاقيات فضّ الاشتباك على الجبهتين، أو بمؤتمر جنيف للسلام. وعندما أقدم الرئيس السادات على زيارة القدس تعرّض لاتهامات قاسية، بالرغم من أن خطابه فى الكنيست الإسرائيلى من أفضل الخطابات فى التعبير عن الحقوق العربية والفلسطينية والمطالبة بتحقيقها، ولم يتضمن أى قدر من «التنازلات أو من التفريط» فى الحقوق العربية. ورفضت الدول العربية الأخرى المعنية بالصراع العربى الإسرائيلى ومنظمة التحرير الفلسطينية المشاركة فى جهود التوصل إلى اتفاق سلام بين الدول العربية وإسرائيل. ولقى توقيع اتفاقيتى كامب ديفيد عام 1978 معارضة شديدة بسبب حديث إحدى الاتفاقيتين عن الإطار العام للتسوية السلمية للصراع العربى الإسرائيلى، وكان من بين أسانيد الهجوم على الرئيس السادات وعلى اتفاقيتى كامب ديفيد أن السادات ليس مفوضاً بالحديث نيابة عن الفلسطينيين أو عن الدول العربية الأخرى. ومن ثم لجأ الرئيس السادات، بصفته رئيساً لجمهورية مصر العربية، إلى توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وحظيت المعاهدة بمصادقة البرلمان المصرى، وأصبحت سارية المفعول. وبالرغم من أن الاتفاقية كانت تتعلق بمصر ولا تُلزم غيرها من الدول العربية، فقد أقدمت الدول العربية على معاقبة مصر بتعليق عضويتها فى جامعة الدول العربية، ونقل الجامعة من مقرها الدائم فى القاهرة إلى تونس العاصمة، وأقدمت معظم الدول العربية على قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر ومقاطعتها. وشكّلت كل من سوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن الديمقراطية ومنظمة التحرير الفلسطينية ما سُمى «جبهة الصمود والتصدى»، والتى لم تستطع الصمود أمام خلافات عضوين رئيسيين بها، هما سوريا والعراق اللذان عادا إلى حالة من العداء السافر بعد أشهر من الإعلان عن تكوين هذه الجبهة.

وعندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، ساندت بعض الدول العربية علناً إيران فى مواجهة العراق، وعندما احتلت العراق الكويت عام 1990، أيّدت بعض الدول العربية أو على الأقل لم تعارض أن تقوم دولة عربية باحتلال دولة عربية أخرى واعتبارها جزءاً منها. ولم تقدم دولة عربية على قطع العلاقات مع إيران بسبب احتلالها الجزر الإماراتية الثلاث، بل واحتفظت دول عربية وأحزاب ومنظمات فلسطينية بعلاقات متميزة مع إيران. واحتلت تركيا لواء الإسكندرونة السورى، وأعطت نفسها الحق فى التوغل فى الأراضى العراقية والسورية، واحتلت أجزاء من الشمال السورى، وتدخلت عسكرياً فى ليبيا، وتعتدى على الحقوق المائية لكل من سوريا فى نهر الفرات والعراق فى نهرى دجلة والفرات. ومع ذلك، تحظى عدة دول عربية ومنظمات فلسطينية بعلاقات متميزة مع تركيا.

وبغضّ النظر عن اختلاف التحليلات حول آثار القرار الإماراتى، ثمة تساؤلات مشروعة نطرحها على من يعتبرون قرار الإمارات «خيانة» لفلسطين والفلسطينيين، لماذا لا يعتبر استمرار العلاقات المتميزة التى تصل حد التحالف من قبَل بعض الدول والأحزاب والمنظمات العربية مع إيران «خيانة» للإمارات وللإماراتيين؟ ولماذا لا يعتبر استمرار العلاقات المتميزة التى تصل إلى حد التحالف من قبَل بعض الدول والأحزاب والمنظمات العربية مع تركيا «خيانة» للعراق والعراقيين ولسوريا وللسوريين؟ ولماذا نظر معسكر «الصامدين والمقاومين العرب» إلى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية باعتبارها «خطيئة كبرى» قوطعت مصر بسببها أكثر من عشر سنوات، واعتبروا توقيع الأردن اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1994 «تفريطاً فى الحقوق»، بينما لم يكن إعلان المبادئ «اتفاق أوسلو» الذى وقعته منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل عام 1993 وما أعقبه من اتفاقيات مهّدت السبيل أمام تأسيس سلطة فلسطينية فى كنف الاحتلال الإسرائيلى أمراً معيباً، ولم تكن المفاوضات السورية الإسرائيلية برعاية أمريكية والتى أوشكت على التوصل لمعاهدة سلام سورية إسرائيلية «خروجاً على الإجماع العربى»؟ ولماذا تعطى بعض الدول العربية لنفسها الحق فى السعى لتحقيق مصلحتها الوطنية وتندد باستخدام دول عربية أخرى الحق نفسه؟ مرة أخرى، ليس هذا دفاعاً عن القرار الإماراتى، بل عن حق كل دولة عربية فى اتخاذ القرارات وتبنِّى السياسات التى يراها صانعو القرار بها محققة لمصلحتها الوطنية، وليس من حق أى دولة عربية أن تدّعى أن من حقها أن تحدد لدولة عربية أخرى ما يجب عليها أن تفعله.