الطريق إلى إثيوبيا (2) (موانع السفر للجنة)
كان المطار هادئاً للغاية، قليل من المسافرين، قليل من الحركة، فقد كانت ليلة شتوية بكل ما تحملة الكلمة من معانٍ، برد شديد مع مطر منهمر، ورغبة لا تتوقف لتدخين سيجارة.
أمام مرحلة وزن الحقائب وتحديد كرسى الطائرة، نظر إلى موظف الشركة الإثيوبية بارتياب، خشيت أن يقول لى أنت «مدلس»، كما فعل زميله فى السفارة، لكنه أبطل توقعى، وقال لن تستطيع السفر، ثم منحنى جواز السفر وأشار لى بالخروج من الطابور.
شىء ما بداخلى أخبرنى أن هذه السفرية لن تمر مرور الكرام، وأن قطيعاً من الفئران يلعب فى «عبى»، وهممت بالخروج من الطابور، لولا سيدة عالية الأرداف، ممشوقة القوام، سمراء شديدة الجمال، عديمة الذوق دفعتنى لتأخذ مكانى دون أن تنتظر الثوانى التى ستجعلنى أترك لها المكان بهدوء.
استفزنى الأمر جداً، فمددت يدى وأمسكت بطرف مكتب «الكونتر» وقلت لها بصوت مرتفع: أنا لم أنتهِ بعد، عودى إلى مكانك باحترام، ثم نظرت للموظف وسألته: لماذا لن أسافر هذه المرة، هل صورتى فى الجواز لا تعجبك، أم أن مهنتى لا تريحك نفسياً، أم أن جنسيتى هى التى دفعتك لتمنعنى من السفر.
أخذ منى أوراقى مرة أخرى، لكنه مرّرها لرجل آخر يقف بالقرب منه يبدو أنه رئيسه، فذهبت إليه، فأعاد لى الجواز وأمسك بورقة تذكرة السفر، وقال لى التذكرة مدفوعة باسم غير اسمك؟ فقلت: صحيح الفيزا باسم رئيس مجلس إدارة الصحيفة، لكن التذكرة باسمى، فقال: نعم لكن الفيزا التى دفعت بها ليست معك بالطبع، فقلت: هذا صحيح، قال: هناك شرط مكتوب بأن تُحضر الفيزا معك للمطار.
نظرت إلى التذكرة فلم أجد ما يقول، فأشار إلى بضعة سطور مكتوبة بخط صغير للغاية لا يُقرأ بالعين المجرّدة، لدرجة أننى استعنت بكاميرا الموبايل لتكبير الصورة، فوجدت الشرط فعلاً مكتوباً، لكنه مستحيل قراءته، تعجّبت من وجوده، حاولت أن أشرح للمسئول بالخطوط الإثيوبية أن هذا الأمر فى حكم القانون؛ تدليس وغش، خاصة أنه أمر مستحدث لا يطبّق فى الطيران المصرى ولا الفرنسى ولا الإيطالى ولا اليونانى ولا الهولندى.
لكن الرجل ابتسم وقال لى أمامك ساعة لتحضر كارت الفيزا أو تدفع ثمن التذكرة كاش، كان بالفعل معى ثمن التذكرة، لكنه كان كل ما معى من مال لتغطية نفقات السفر، أجرة الفندق والتنقلات والأكل والشرب، فلن أعاند وأسافر أديس أبابا وأعيش هناك فى الشارع أتسول طعامى.
فى اليوم التالى، حاولنا البحث عن واسطة لإيجاد مقعد على الطائرة المصرية، فليست لدىّ رغبة فى تكرار محاولة السفر على الخطوط الإثيوبية، بعد ما حدث، لكن المحاولات باءت بالفشل، فكرت فى إلغاء السفر، لكن ما حدث فى السفارة زادنى عنداً.
لم يكن هناك بُد من قيام الجريدة بإعادة شراء التذكرة «كاش» حتى لا يتكرّر الموقف مرة أخرى، وقتها وعن طريق عدسة مكبرة، تأكدت أن التذكرة الجديدة ليس بها أى شروط «تدليسية» أخرى.
عُدت إلى المطار، وكان الموظف لا يزال مبتسماً، لكن ابتسامته اتسعت ملء وجهه ما إن سقطت عيناه علىّ وأنا أمنحه جواز السفر والتذاكر، قلت له أتمنى ألا تكون هناك موانع للسفر إلى «الجنة» هذه المرة، تغيّرت ملامحه واختفت الابتسامة، لكنه لم يفعل شيئاً هذه المرة سوى أن أعاد الأوراق لى مصحوبة برقم مقعد الطائرة.
كان جو القاهرة وقتها صحواً لطيفاً مصحوباً برذاذ خفيف وهواء عليل، يمنحك سعادة عجيبة، وحباً للحياة ويشحن قلبك بالأمل والرغبة فى البقاء فيها أطول فترة ممكنة، لكن سماء إثيوبيا، كانت عكس ذلك تماماً.
الهواء كان شديد العصف، والمطر يسقط كالحجارة، والطائرة تتقاذفها الرياح الشديدة يميناً ويساراً، والبرق يكاد يقترب من نافذتى، ولم أجد راكباً حولى فى الطائرة، إلا وهو ممسك بمصحف أو صليب أو يدعو الله فى السر والعلن أن يغفر لنا خطايانا قبل أن نلقاه جميعاً محطمين فوق غابات بحيرة تانا شمال الهضبة الإثيوبية.