خيوط «أردوغان» المتشابكة.. ومستقبل مغامراته الاستعمارية

حازم منير

حازم منير

كاتب صحفي

واقعة احتجاز مصريين فى مدينة ترهونة الليبية، على أيدى ميليشيا مسلحة، أكبر دليل قدمته الأحداث على خطورة الأوضاع فى الجارة الغربية، وهو مؤشر خطير على ما ستؤول له الأوضاع، إذا استمر الحال على ما هو عليه، وتضاعف التدخل التركى فى هذا البلد المترامى الأطراف من كل جانب، وحتى عمق الصحراء.

تدخل حكومة السراج لإنهاء الأمر، وإطلاق سراح المصريين المحتجزين، لا يمكن اعتباره موقفاً مبدئياً من هذه الميليشيات، التى تجول وتصول فى كل المناطق الخاضعة لحكومة طرابلس، والتى تفرض عليها قوات الاحتلال التركى مظلة من الحماية لأنشطتها الإرهابية والدموية، ضد كل من يعارضهم.

الحاصل أن التدخل لإطلاق سراح المصريين، وتوقيف عصابة الميليشيا المرتكبة لهذه الجريمة، جاء بعد إعلان الأمم المتحدة مطالبة «السراج» بإجراء تحقيقات فى الأمر، وبعد إشارات من القيادة السياسية المصرية بأن كل الخيارات مطروحة لتحرير العمال المصريين المحتجزين، وهى مؤشرات على أن التحركات الليبية تمت جراء ضغوط، قادرة على صناعة موقف دولى مما يحدث فى ليبيا، وبدأ بالمصريين، ولا يعلم أحد بمن سينتهى.

الوجود التركى فى ليبيا من أخطر عوامل تأجيج الأزمة وتعميقها وتوسيع دوائرها، وربما يقول البعض إن التدخل التركى المباشر، لم يتم إلا منذ فترة قصيرة، لكنه فى الحقيقة يمتد لسنوات طويلة، تسبق أوضاع ليبيا، إلى ما جرى فى مصر بعد يناير 2011، والذى ساهم أردوغان بدعمه للإخوان بنسبة كبيرة فى تحريك مجريات الأمور، وإعلانه مساندته لميدان التحرير، وتبادله الزيارات مع قيادات الجماعة الإرهابية، وهى كلها دلائل على الرؤية التركية لمستقبل المنطقة وفقاً لتصورهم.

لذلك ليس مستغرباً، الأحاديث المتداولة فى تونس، والاتهامات الموجهة للجماعة الإرهابية هناك وزعيمها راشد الغنوشى، بدعم الاحتلال التركى لليبيا ومساندته، وهى نفسها الاتهامات التى ألقت بظلال من الشك على موقف الرئيس التونسى نفسه، والزيارة المفاجئة لأردوغان إلى العاصمة الخضراء، التى لم يُعلن عنها، وسببت أزمة عنيفة بين الرأى العام التونسى والرئاسة التونسية، وكانت الزيارة بغرض تحركات يستهدفها نظام أردوغان فى ليبيا، قبل إرسال قواته وميليشياته وخبرائه إلى العاصمة الليبية.

الشاهد أن كل التحركات الليبية فى شرق المتوسط، ترتبط بكلمة السر فى المنطقة، وهو الغاز مستقبل الحياة فى العالم، فالتدخل التركى فى سوريا بالتحالف مع قطر يرتبط بملف خط الغاز الواصل إلى المتوسط ومنها إلى دول المنطقة، والتدخل التركى فى الأراضى القبرصية واليونانية يرتبط برغبة أردوغان فى السيطرة على منابع الغاز فى بحار هذه الدول، وهو ما يفعله فى شمال العراق طمعاً فى آبار النفط، وإنتاج النفط الذى كان يتاجر فيه مع قادة داعش وقت أن كانت مسيطرة على المنطقة بيعاً وشراء، مقابل دعمها عسكرياً، وبالقطع فإن الاستعمار التركى لليبيا يرتبط فى جانب منه بآبار النفط ومنابع الغاز فى أراضيها.

نحن أمام نظام مغامر، قرر أن يفرض سطوته وسيطرته على المنطقة، ويسرق ثروات شعوب هذه البلدان، وهو لتحقيق ذلك قرر أن يتمدد شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، ويرسل قواته إلى كل مكان، من دون البحث فى التوازنات المحيطة، وموازين القوى، معتمداً فى ما يبدو على أن أحداً لن يخاطر، بخوض غمار مواجهات مسلحة، ستكون نتائجها مروعة على المنطقة بأكملها.

واللافت أن «أردوغان» يضع فى حساباته تداخل وتشابك المصالح الدولية فى المنطقة، ويعتمد على أنها فى جانب منها، ستتيح له ثغرات للتحرك، ينفذ منها إلى جوانب من استراتيجيته، الساعية إلى إحكام سيطرته على منابع البترول والغاز فى المنطقة.

والشاهد أن الأداة الرئيسية للمحتل أردوغان، هى جماعة الإخوان الإرهابية، مخلب القط الذى يتحرك به لغزو بلدان المنطقة، فهى من جانب تمثل ما يعتقد أنه واجهة دينية لجذب مشاعر المسلمين نحوه، بالإضافة إلى كونها تمتلك تنظيماً ممتد الأطراف فى العديد من دول العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط، وهو التنظيم الذى يعتمد عليه الاحتلال التركى للمنطقة فى الانتشار بين الجماهير، وتبرير سياساته العدوانية، ومحاولة اعتبارها مجرد تحركات دينية لاستعادة الاحتلال التركى تحت مسمى الخلافة الإسلامية، وهو الشعار المُنبت الصلة تماماً بالإسلام ولا يمثل فى حقيقته سوى رؤية استعمارية توسعية.

وأعتقد أن أردوغان يسعى لتوظيف وجود بلاده فى الناتو، لصالح مخططه الاستعمارى بالمنطقة، خصوصاً أن بلاده صاحبة موقع متميز داخل الحلف العسكرى الأكبر والأقوى فى العالم، وأن أنقرة تمثل جزءاً مهماً من رأس الرمح العسكرى للناتو فى المنطقة، وتلعب دوراً مهماً فى الاستراتيجية العسكرية للحلف، وفوق كل ذلك هى صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً فى المنطقة والأكثر قوة مع إسرائيل «حليفة حلف الناتو»، وفى الأغلب فإن أردوغان يعتبر هذه الجوانب غطاءً وستاراً لتحركاته، بما يجعل من معارضته، مجرد انتقادات وتكدير لبعض الأجواء، دون المساس بجوهر مخططه واستمراره.

ظنى أن جوانب مهمة تمثل ثغرات خطيرة، وعقبات حقيقية فى التصور الاستعمارى التركى، ومنها قدرته على التمدد بهذا الاتساع فى دول المنطقة، وتوسيع مساحات الخلاف والصراع والعداء مع دول عديدة، وقدرته على دعم هذا التمدد، وتوفير متطلباته واحتياجاته الاستراتيجية، والقدرة على إدارة صراعات هذا التمدد بخيوط متداخلة بالغة التعقيد، ومصالح متشابكة، بحيث لا يُمكن تصور تحقيق نجاحات فى هذا الأمر، لصعوبة تفكيك تداخلات الخيوط كثيرة التعقيد، من دون خسائر وجراح مختلفة ومتنوعة.

المؤكد أن العقبات فى وجه مخططات أردوغان الاستعمارية، لا تقف عند حدود الصراعات الإقليمية، أو ضعف قدراته على تدعيم وتمويل هذا الامتداد الجغرافى للمشروع الاستعمارى، وإنما يمثل الداخل عقبة كبيرة فى وجه الديكتاتور التركى، سواء من جانب قمع معارضيه، بل وأصدقاء الماضى القريب، الذين انشقوا عنه جراء حماقة سياساته، إضافة إلى تردى الأوضاع الاقتصادية والانهيار والتراجع الحاصل، الذى يسعى إلى تعويضه من خلال الاعتداء على ثروات شعوب البلدان المجاورة فى شرق المتوسط واحتلال أراضى بعضها.

ما جرى فى ليبيا اليومين الماضيين، وقصة الاعتداء على العمالة المصرية من ميليشيا بلطجية، هو جزء من مشهد التفكك والانهيار داخل ليبيا، حتى لو تم ضبط مرتكبى هذه العملية الإرهابية، وهى نموذج يعكس تأثير الدور التركى فى تكريس وتعميق التفكك، وفى الوقت ذاته تحضير المشهد لمزيد من العدوان على مناطق أخرى ومنها الجنوب الليبى.

لا أعتقد أن مصر سيُفرض عليها قرار، فكل الدلائل تقول إنها من تصنع قراراتها.