أعلنت وزارة الدفاع التركية، الجمعة الماضية؛ أن سفناً حربية ومقاتلات تركية قامت بمناورات واسعة فى شرق المتوسط، حيث بدا الأمر من حيث الزمان والمكان أنه استعراض للقوة مرتبط بالأحداث الأخيرة فى ليبيا. شاركت فى هذه التدريبات ثمانى قطع بحرية ما بين (فرقاطة، وطراد) فضلاً عن 17 طائرة مقاتلة، استمر هذا التمرين العسكرى المفاجئ نحو ثمانى ساعات على مساحة ألفى كم ذهاباً وإياباً من الشرق إلى الغرب، وفق ما جاء ببيان وزارة الدفاع التركية التى أطلقت اسم «أعالى البحار» على تلك المناورة، كما تركت وسائل الإعلام الرسمية تنشر صوراً للمقاتلات (F - 16) وطائرات الرادار أثناء إقلاعها وهبوطها، كما استعرضت على نحو واسع القطع البحرية المشاركة التى تصحبها المروحيات، لتقدم تقارير موسعة تصف فيها المناورة دون مواربة بأنها «استعراض للقوة».
على الأرض؛ وفى الغرب الليبى بدأت تركيا فى تنفيذ صيغة جديدة لوجودها العسكرى، بعد أن تمكن الضباط الأتراك الذين وصلوا إلى هناك منذ شهور أن يمسكوا بزمام القيادة، على الأقل فى إدارة عمل الميليشيات التى تم نقل المرتزقة لها، كى تمثل قوة تهديد يمكنها أن تحسم معارك صغيرة لصالحها. لكن بطبيعة مسرح العمليات الليبى، يمكن لمجموعة من المعارك الصغيرة مجتمعة أن تصنع مشهداً لانتصار يبدو كبيراً نسبياً، وهو ما جرى خلال أسابيع مضت وفى فترة زمنية وجيزة. ربما هذا ما جعل المشهد فى الغرب الليبى يبدو وكأنه قد أعيد ترتيبه بالصورة التى هو عليها الآن، كما دفع الأتراك للعمل الحثيث من أجل حصد وتثبيت أكبر مكاسب ممكنة، قبل أن تنقلب المعادلات مرة أخرى مثلما جرى فى أكثر من موقع خلال المعارك التى وقعت فى ليبيا بكاملها. الذى يفهمه الأتراك بالنظر إلى سوابقهم بالإقليم، ولا يخفونه على أى الأحوال، أن وجودهم اليوم بالغرب الليبى إن لم تتم ترجمته إلى الحصول على قواعد عسكرية، تقبع فيها وحدات من الجيش التركى بالعتاد والسلاح اللازم، ويشغلها ضباط وجنود أتراك ووحدات استخبارات، فإنه لن يشعر بطمأنينة الانتصار ولا يعتبر نفسه قد حصل على مقابل ما قدمه للجناح الغربى من الصراع الليبى.
لذلك بشكل محموم ومتسارع، يجرى خلال أسابيع الفترة الرمادية ما بين المناوشات التى تجرى حول سرت، وبين فرض الأطراف الدولية لقيود إطلاق النار بشكل جدى، أكبر عملية نقل جوى من أنقرة إلى مطارات الغرب المتنوعة، بغرض الإسراع فى الاستيلاء على قاعدتى «مصراتة» على ساحل المتوسط بالشمال، وفى جنوب غرب طرابلس العاصمة قاعدة «الوطية» العسكرية. كى تصبح كلتا القاعدتين تركيتين خالصتين، ليمكن بعد إنجاز هذا الأمر توزيع المهام والأغراض المخصصة لكل منهما، فإحداهما جرى التخطيط لتكون مركزاً كبيراً لأسراب «الطائرات المسيرة»، التى أثبتت فاعلية فى تنفيذ تكتيكات الاستطلاع والتصوير والاشتراك فى عمليات الإغارة المحدودة، التى تظل محدودة التكلفة لكنها قادرة على مسرح عمليات مفتوح ومترامٍ مثلما المناطق ما بين المدن والقرى، فى تحقيق مكاسب وإحداث خسائر ليست بالقليلة. هذا الأمر المرشح له بقوة، قاعدة «معيتيقة» أيضاً بجانب قاعدة «مصراتة»، والأولى جرى اختبارها فى كثير من عمل «المسيرات»، بل وجرى إنشاء مركز لتجميع الطائرات بداخل القاعدة لما تتمتع به من موقع استراتيجى، فضلاً عن مساحتها الكبيرة نسبياً وتجهيزاتها، التى سمحت بإقامة معظم الفنيين والمستشارين الأتراك الذين وصلوا إلى هناك تباعاً أثناء سير معارك حصار العاصمة طرابلس.
الأمر على هذه الصورة، التى تخطط أنقرة كى تجعلها حاضرة فى أى شكل من أشكال التسوية المستقبلية داخل ليبيا، هى نسخة أقرب ما تكون لما تقوم به روسيا فى سوريا، مع تبادل الأدوار أو تطويرها إن شئنا الدقة. فالذين يؤكدون أنه كان هناك وجود روسى حول العاصمة طرابلس، هم من يفسرون اليوم أن انسحاب مقاتلى شركة «فاجنر» الأمنية الروسية الشهر الماضى على نطاق واسع، يعد دليلاً قاطعاً على أن الرئيس الروسى بوتين والرئيس التركى أردوغان قد توصلا بالفعل إلى أسس الصفقة الليبية. بل هناك من بدأ يهمس بأن ليبيا التى دمرها «الناتو»، قد تكون هى الساحة التى سيطلق منها رصاصة الوفاة للحلف العسكرى الكبير، وهى بالطبع رؤية موغلة فى التشاؤم وبعض من الخيال. لكن هناك على الأرض ما يجعلها غير مستبعدة فى ظل النبرة العسكرية الخشنة التى تتبادلها أثينا وأنقرة منذ شهور، وشهدت تصعيداً استثنائياً خلال الأيام الأخيرة إلى الحد الذى جعل اليونان تعتبر خطوات تركيا فى الحصول على قواعد عسكرية بليبيا هو بالأساس موجه لها، بعيداً عن مشروعها أو أطماعها بداخل ليبيا. صحيفة «جريك سيتى تايمز» نشرت مؤخراً تصريحات وزير الدفاع اليونانى «باناجيو توبولوس»، التى قال فيها: «إن الطريقة الوحيدة لتعامل اليونان مع السلوك التركى، هى استنفاد جميع الأسلحة الدبلوماسية فى ذات الوقت مع ضمان زيادة القوة الرادعة للقوات المسلحة». كما أظهر استطلاع جديد للرأى نشرته فى اليوم التالى ذات الصحيفة، أن غالبية اليونانيين سيدعمون القيام بعمل عسكرى ضد تركيا، إذا انتهكت حقوق أثينا السيادية فى المنطقة. فى الوقت الذى يقف فيه «الناتو» مشلول الإرادة، أمام أسئلة أقرب للوجودية منها إلى الانخراط فى حل أزمة ما!
الكثير من العواصم الأوروبية ترى أن اندلاع حرب كاملة على ضفاف المتوسط بات أقرب مما يظن أحد، وأنها فقط تنتظر محفز الإشعال الذى كاد يحدث الأسبوع الماضى، فى واقعة الفرقاطة اليونانية والسفينة التركية التى ضبطت تخرق حظر نقل السلاح إلى ليبيا. كما أن مدينة «سرت» والهلال النفطى الليبى وما يجرى حولهما، وما تقوم به تركيا من تثبيت لأقدامها فى ليبيا عبر القواعد العسكرية، ما هو إلا استعداد لخوض تلك الحرب أو النزاعات الخشنة، من نقاط ارتكاز استراتيجية تحقق لها ميزة نسبية كبيرة عن غيرها من المنافسين.