ما لا يقال عن «المهرجانات»

لا تهتم المجتمعات المأزومة ومتراجعة الوعى عادة بأن تقف وتتأمل وتفكر فيما يشغلها ويحوز اهتمامها ويستهلك طاقتها.

هل يمكن أن نسأل أنفسنا لماذا ننشغل بفستان تلك الفنانة، أو برنامج المقالب الذى يقدمه هذا الفنان، أو أغنية «الخمور والحشيش»، أو صراعات «معركة السوبر»، أو «إرضاع الكبير»؟

يفيد علماء الإعلام والرأى العام بوجود لعبة تاريخية، تكررت عبر القرون، وهى لعبة أثبتت نجاحاً فى تعزيز سلوك الانقياد والامتثال، عبر قيام القوى النافذة، صاحبة المصالح، بصياغة المجال الإعلامى على نحو يخدم مصالحها.

يلعب الإعلام أدواراً حاسمة فى تشكيل الرأى العام تجاه القضايا والأزمات، من خلال أربع عمليات رئيسية يقوم بها، أولاها هى عملية تشكيل إطار القضايا Issue Frame، وثانيتها عملية إرساء الأولويات Agenda setting، وثالثتها عملية بناء الصور الذهنية Image Frame، ورابعتها عملية التأطير Strategy Framing.

فى عملية تشكيل إطار القضايا، تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على قضايا بعينها، وتحجبه عن قضايا أخرى، من دون النظر إلى مدى أهمية تلك القضايا فى سلم أولويات الجمهور. وفى هذا الصدد، يعتقد باحثون إعلاميون أن قيام الإعلام بإغفال قضايا مهمة، أو منحها مساحات وأوقات عرض لا تتناسب مع مدى أهميتها المفترضة، يؤدى تلقائياً إلى تقليل الاهتمام بها من قبَل قطاعات الجمهور.

ومن جانب آخر، تقوم وسائل الإعلام بعرض القضايا المختلفة على جمهورها بشكل مرتب تبعاً لأهميتها، ووفق نظرية «تحديد الأولويات»، فإن «ثمة علاقة إيجابية بين ما تذكره وسائل الإعلام فى صدارة رسائلها، وبين ما يراه الجمهور مهماً»، ويرى بعض الباحثين أن تلك النقطة بالذات تمثل مكمن أهم تأثير لوسائل الاتصال، أى «مقدرتها على ترتيب أجندة الجمهور بخصوص القضايا والموضوعات المطروحة».

تفيد دراسات تحليل الخطاب أن الأدوار والصفات المنسوبة للأسماء والعمليات التى ترد فى النصوص والتقارير الإعلامية بشتى أنواعها تؤثر فى إدراك الجمهور للقوى الفاعلة فى القضايا محل الاهتمام، وهو أمر يعزز قدرة وسائل الإعلام على عملية «صنع الصورة الذهنية»، من خلال أطر الصور المقدمة عبر المواد الإعلامية.

ومن ذلك، فإن المعالجة الإعلامية هى التى تكرس صورة «المقاوم» أو «المجاهد» أو «اللص» أو «الشريف»، ثم يتلقى الجمهور هذا التلقين، ويعتبره جزءاً من الواقع فى أغلب الأحيان.

ومن بين النظريات الأكثر اعتباراً فى تعيين تأثير معالجة الشئون العامة فى وسائل الإعلام المختلفة، تأتى نظرية «تحليل الإطار الإعلامى»، وهى النظرية التى تقدم «تفسيراً منتظماً لدور وسائل الإعلام فى تشكيل الأفكار والاتجاهات تجاه القضايا البارزة، وعلاقة ذلك الدور باستجابات الجمهور المعرفية والوجدانية».

ووفق نظرية «تحليل الإطار الإعلامى» فإن الأفكار لا تنطوى على مغزى معين بحد ذاتها، وإنما تكتسب مغزاها من خلال وضعها فى إطار Frame يحددها وينظمها ويضفى عليها قدراً من الاتساق، عبر «ردها إلى قيم ومعان أخرى».

يبرز الإطار إذن، وفق تلك النظرية، بوصفه فكرة محورية، تنتظم حولها الأحداث الخاصة بقضية معينة، وهو أمر يمتد ليشمل فئات مختلفة من الجمهور، تتنوع خصائصها الديموجرافية والمعرفية.

يتفق باحثو الاجتماع والعلوم السياسية على أن وسائل الإعلام تلعب دوراً بارزاً فى بلورة تصورات الأفراد والجماعات، وعمليات التغيير الاجتماعى، وصياغة الأفكار والتصورات الذهنية، التى تتحول لاحقاً إلى دوافع وممارسات سلوكية.

ومع ازدهار أنشطة وسائل التواصل الاجتماعى، زاد التأثير الذى يُحدثه الاتصال الجماهيرى فى السلوك السياسى للأفراد والجماعات، وهو الأمر الذى انتبهت له القوى الفاعلة فى عالم السياسة، حيث باتت تخصص جهوداً، وتفرز موارد، وتصوغ استراتيجيات، لاستخدام تلك الوسائل فى تحقيق أهدافها.

يشير هذا التأصيل الجديد إلى الدور الواسع الذى يمكن أن تلعبه وسائل التواصل الاجتماعى، ضمن منظومة ما بات يُعرف بـ«الإعلام الجديد» فى عالم السياسة.

وهو دور تستمده تلك الوسائل من سماتها الفريدة، التى يمكن تلخيصها فى الإتاحة، والسرعة، والفورية، والقدرة على التخفى، وعدم وجود قيود على حجم وسعة المواد التى يتم بثها، وعدم تقيدها بحدود الزمان والمكان، وعدم خضوعها لقواعد أو آليات ضبط ومتابعة محكمة.

إن أى محاولة لتعيين أو تحليل الدور الذى يلعبه الإعلام حيال الجمهور يجب أن تأخذ فى الاعتبار أن الإعلام بات يعمل فى إطارين، أولهما إطار الإعلام النظامى، ويتجسد فى وسائل الإعلام التى تسمى «تقليدية»، أو وسائل الإعلام معروفة الهوية، التى تحمل أسماء تجارية معلومة، ولديها نوع من التسجيل لدى سلطات الدولة أو مصالحها المختلفة. أما الإطار الثانى، فهو الإعلام غير النظامى، الذى يتجسد فيما اصطلح على تسميته بـ«الإعلام الجديد»، حيث المنصات الإلكترونية المتاحة للاستخدام بلا قيود صارمة تتعلق بالإفصاح والتسجيل عبر شبكة الإنترنت، مثل مواقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، و«تويتر»، وموقع الفيديوهات الأشهر «يوتيوب»، وغيرها.

وبعكس أوضاع الإعلام النظامى، يتمتع الإعلام غير النظامى بمساحات حرية كبيرة، تصل فى كثير من الأحيان إلى حد الانفلات، وارتكاب الجرائم والمخالفات، كما قد تشهد أطروحات مغايرة لـ«المطلوب والسائد».

من هنا بدأت تظهر المصاعب للقوى النافذة عند محاولتها إحكام الهيمنة على الرأى العام، فتلك القوى ستسعى، عبر الإطار الذى تسيطر عليه، إلى تحديد القضايا التى يناقشها الجمهور، بل وستقوم أيضاً بترتيب أهمية تلك القضايا من وجهة نظرها، وستعمد إلى ترقية مكانة رموزها وتلطيخ سمعة أعدائها، وإلى تأويل الأحداث والتفاعلات على النحو الذى يناسب مصالحها، وصولاً إلى بيئة إعلامية مناصرة تنتج رأياً عاماً مواتياً.

لكن الإطار غير النظامى لم يُبد مطاوعة لجهود إخضاعه بعد، وما زال قابلاً لتحديد أطر وأولويات وقضايا وصور ذهنية مختلفة عن «المطلوب»، وهنا سنشهد الصراع الذى سيتخذ عنواناً أنيقاً هو: «تنظيم الإنترنت.. ومواجهة مخاطر (السوشيال ميديا)».

ثمة طريقة أسهل وأكثر نجاعة لمواجهة هذا التطور المربك، فإذا كانت القوى النافذة باستطاعتها أن تحدد القضايا التى تطرحها على المجتمع، وأن ترتب أهميتها، وأن ترسم صور الفاعلين فيها، وأن تؤطر فهم الجمهور لها، فما الذى يمنع أن يجرى كل هذا بقدر من العدالة والرشد، ومقابلة الانشغالات الحقيقية، وطرح القضايا الجادة، ومناقشة التحديات لا التفاهات؟