إيمان الصيرفي: نجيب سرور كان ودودا لطيفا وليس "مرتابا" كما يشاع

كتب: إلهام زيدان

إيمان الصيرفي: نجيب سرور كان ودودا لطيفا وليس "مرتابا" كما يشاع

إيمان الصيرفي: نجيب سرور كان ودودا لطيفا وليس "مرتابا" كما يشاع

المخرج المسرحى إيمان الصيرفى، أحد تلاميذ ومحبى نجيب سرور، يحرص كل عام على إحياء ذكرى الشاعر الكبير، حسب المكان المتاح، سواء فى قصر الثقافة، الذى يحمل اسم «نجيب» بقرية إخطاب، أو دار ميريت بالقاهرة، وإن لم يتيسر أى من المكانين، ينظّم «الصيرفى» حفلاً صغيراً بمنزله، يضم عدداً من محبى «نجيب»، يلقون أشعاره، ويدندن أصحاب الأصوات الجميلة منهم بأغنياته على العود.

منذ عامين، حاول «الصيرفى» إحياء ذكرى «سرور» بالمسرح القومى، لكن طلبه قوبل بالمماطلة من القائمين على المسرح، وبـ«التحجج» بعدم توافر ميزانية، حسب حديث «الصيرفى»، لـ«الوطن»، الذى كشف عن كواليس العلاقة التى جمعته بنجيب سرور بالإسكندرية، كما كشف عن دور الشاعر فى حياته: «لولاه لكنت اليوم فى مكان آخر»، موضحاً: «كنت فى بداية شبابى أعيش حالة عشوائية، بعد رحيل والدى والتحاقى بمدرسة ثانوية صناعية بالإسكندرية.

وفى السبعينات بدأت التعرف إلى عالم نجيب سرور من خلال القراءة فى قصر ثقافة الأنفوشى، وقصر ثقافة الحرية، وسحبنى هذا العالم فقرأت أغلب ما كتبه، وأحببته قبل اللقاء الفعلى، كما كنت مهتماً بالمشاركة فى الأعمال المسرحية فى قصور الثقافة، سواء بالتمثيل أو الغناء».

المخرج السكندرى يروى حكاية السنوات الأخيرة بمستشفى الأمراض النفسية: أصر على ضرورة التحام الفن مع الجماهير

ويتابع «الصيرفى»: كنت فى هذه الأثناء عضواً بمنظمة الشباب، التابعة للاتحاد الاشتراكى، وكان ضمن الزملاء الأعضاء فى المنظمة أحد العاملين فى التمريض بمستشفى الدكتور النبوى المهندس للأمراض النفسية والعصبية بالمعمورة، وفى أحد أيام عام 1972، قال لى: «الشاعر نجيب سرور.. اللى انت مغرم بيه موجود عندنا فى المستشفى»، سألت الممرض: ليه؟ هو مجنون ومريض فعلاً؟، فقال: «لأ.. دى حاجة كده زى فترة نقاهة»، فقلت له: «عايز أقابله»، فقال: «بسيطة.. ممكن ننظم زيارة». وبالفعل نظم لنا الصديق الممرض زيارة لنجيب سرور فى المستشفى.

ماذا دار فى اللقاء الأول؟

يحكى «الصيرفى»: «فى البداية كان هناك تحفظ طبيعى، من «نجيب» ومنا، خاصة أننا كنا صغار السن، ثم فتح «نجيب» معنا الحوار قائلاً: «انتوا إيه اللى جننكم وجابكم المستشفى؟» فقلنا له: «علشان نقابل حضرتك»، فضحك وفتح معنا حواراً عن المسرح، وكنا نحن الخمسة نشارك بالتمثيل والغناء والعزف فى الأعمال المسرحية بقصور الثقافة بالإسكندرية، وهكذا اقتربنا منه واقترب منا». وهنا يتوقف «الصيرفى» قائلاً: لم يكن (نجيب) مرتاباً وشكاكاً بشكل عام كما يشاع عنه، بل كان إنساناً ودوداً، ولطيفاً.

حكى لى عن معاناته فى هذا المستشفى يوم أن شاهد النزلاء لأول مرة خلال جلسات الكهرباء

ويروى: «نجيب» قبل دخوله مستشفى الإسكندرية كان فى مستشفى العباسية بالقاهرة، بعد أن قدم مسرحية «قولوا لعين الشمس»، خلال فترة قصيرة على المسرح القومى فى 1972، وكان يحذر فى نهايتها من 5/6 على لسان البطلة، فى إشارة إلى استمرار التفسخ الذى كان موجوداً فى الستينات وتسبب فى نكسة 1967، لكن الأمن أوقف المسرحية بعد مدة قصيرة من العرض، وأُدخل بعدها «نجيب» إلى مستشفى العباسية. وبالطبع لم أعايش هذه الفترة، لكن «نجيب» حكى الكثير عن معاناته فى هذا المستشفى، منها مثلاً تبوله على نفسه يوم أن شاهد لأول مرة نزلاء المستشفى خلال جلسات الكهرباء. ويتابع: «نجيب» قضى نحو ثلاثة أشهر فى «العباسية» وخرج، وطبعاً هو لم يكن يخاف من المعارضة، وكان دائم الاحتجاج فى كتاباته، ما دفعهم إلى إدخاله مستشفى الإسكندرية.

ولم يكن مرضياً عنه حتى بعد عودته فى 1964، من المجر إلى مصر، حيث لم يتم تعيينه، لكنه عمل فى الأكاديمية «بالقطعة»، وكذلك مخرجاً فى المسرح القومى، بالقطعة، ومكث «نجيب» وقتاً طويلاً يتجاوز الثلاث سنوات فى مستشفى الإسكندرية، وخلال هذه الفترة، ونتيجة توطد العلاقة بيننا وبين الدكتور كمال الفوال، المسئول عن علاجه، ومدير المستشفى فيما بعد، طلبنا الاستفادة من خبرات نجيب سرور فى إخراج عمل مسرحى لنا، فوافق الطبيب وسمح لـ«نجيب» بالخروج من المستشفى مساء كل خميس، على أن يعود صباح السبت من كل أسبوع.

هنا أحداث يتذكرها «الصيرفى» خلال تردده على «نجيب» فى المستشفى: «بعد نصر أكتوبر 1973، قام فريق صحفى من مجلة المصور بزيارة المستشفى، لعمل ملف صحفى عن الشخصيات التى حدث لها إخفاء قسرى، فلم يكن متداولاً بشكل واسع موضوع وجود (نجيب) فى المستشفى، وقال (نجيب) نفسه إنه لم يزره بالمستشفى إلا الفنانة زوزو نبيل، وهذا كلامه لى مباشرة». ويلفت «الصيرفى» إلى أنه خلال هذه الفترة كانت هناك رغبة من نظام «السادات» فى القضاء على وهج نظام «عبدالناصر» بشكل كامل، فسعت مجلة المصور للحصول على شهادات من النزلاء تدين نظام «عبدالناصر»، لكن «نجيب» رفض بإصرار، فهو إنسان عفيف النفس، ولا يأكل حق الأموات، بل كان محباً لجمال عبدالناصر بشكل غير طبيعى، وكتب المقطع الأول المنشور فى أول ديوان «بروتوكولات حكماء ريش»، والذى يبدأ بـ«لا حق لحى.. إن ضاعت فى الأرض حقوق الأموات»، لذلك أفرج عن بعض النزلاء، وتأخر الإفراج عن «نجيب» فبقى وقتاً إضافياً بالمستشفى، إلى أن خرج فى سنة 1975. ويتابع: انتقل «نجيب» إلى القاهرة، وكان خلال هذه الفترة أعجبه عملنا فى المسرحية معه، وكنت وقتها فى المدرسة الثانوية الصناعية التى لا أحبها، فوجهنى بضرورة الالتحاق بالمعهد العالى للفنون المسرحية، لذلك قررت دخول امتحان الثانوية العامة، وحصلت على شهادة الثانوية وتقدمت لاختبارات المعهد، وكان «نجيب» قد رجع للتدريس بالأكاديمية، وأذكر أنه كان متخوفاً ومتردداً بشأن قرار العودة إلى المعهد، لكنى قلت له: «إحنا تلاميذك وبحاجة إلى علمك».

يواصل «الصيرفى»: دخلت المعهد، ودرّس لى «نجيب» لمدة سنة ونصف، ولأنه كان يعمل بالقطعة فى الأكاديمية، فقد كان سهلاً الاستغناء عنه، وقرر الدكتور رشاد رشدى، رئيس الأكاديمية، بعد عام ونصف من عمل «نجيب» الاستغناء عنه بالفعل، لأن «نجيب» كانت له أفكاره الخاصة فى تدريس مادة التمثيل والإخراج، وكان يرى ضرورة التحام الفن مع المجتمع، بينما رئيس الأكاديمية ينتمى لمدرسة الفن للفن، هذا غير طبيعة «نجيب» المعروفة بالتمرد». ويتابع: كان إنتاج «نجيب» غزيراً فى هذه الفترة، فكنا نتقابل فى «جروبى»، ويملى علىّ ما يكتب للنشر فى مجلة «الكاتب» التى كان يرأس تحريرها صلاح عبدالصبور، وكان «عبدالصبور» يحجز له مساحة أسبوعية للنشر فى المجلة، وكنا بعد الكتابة وتناول الإفطار معاً فى «جروبى» نمشى من وسط البلد إلى مقر المجلة على الكورنيش، كانت علاقة الشاعرين طيبة للغاية. ويقول: «بشكل عام كان يحب الأماكن المطلة على النيل، ويعشق الإسكندرية بشكل جنونى، وكان يجلس فى مقهى ريش وأتيليه القاهرة، ولم يكن «نجيب» مسرفاً فى الشراب إلا إذا كان محبطاً، أما فى وقت انشغاله بعمل فنى، فلا يشرب أى كحوليات، وقد لاحظت ذلك عند اشتراكه فى مسرحية «الأوكازيون»، من إخراج الدكتورة ليلى أبوسيف، حيث شارك بتمثيل دور فى العرض، ووقتها التزم «نجيب» بمواعيد البروفات والعرض على وكالة الغورى، لكنه لم يلتزم بالنص، فقد أدخل تغييراً على دوره وفق رؤيته، وأذكر أننا كنا نأكل «كبدة ومخ» من الحسين، بعد انتهاء العرض كل ليلة لمدة شهر.

"سرور" رفض مصافحة ابنة "السادات" فى مسرحية تهاجم والدها

وحول علاقة «نجيب» بالرئيس «السادات»، يؤكد «الصيرفى» أنها كانت «سيئة جداً»، وأذكر أنه خلال عمل «نجيب» فى مسرحية «أوكازيون»، زار العرض ابن الرئيس الفرنسى فاليرى جيسكار دستان مع وزير الثقافة، وخلال العرض خرج «نجيب» عن النص بشكل احترافى، ووجه نقداً للضيف كونه كان داعماً للسادات، وبالطبع فهم الحضور هذا النقد، فتوالت أرجل الأمن على المسرحية إلى أن جاءت رقية بنت السادات للعرض، وقيل لنا وقتها إنها ستصافح الممثلين، بعد انتهاء العرض، فرفض «نجيب» لقاءها، وسحبنى خارج وكالة الغورى، وقال إنها دخلت العرض بصفتها ابنة رئيس الجمهورية، وبالفعل خرجنا دون مصافحة بنت الرئيس.

وحول انتمائه السياسى، يقول: «نجيب» لم يكن كاتباً سياسياً، لكنه إنسان سياسى، ولم ينضم بشكل رسمى لأى تنظيم شيوعى، لكن توجهه شيوعى اشتراكى قلباً وقالباً، وقد عاش «نجيب» حياة مادية قاسية، فكان يعود من المعهد ماشياً إلى بيته فى أول فيصل، وعند جراج نصر الدين فى شارع الهرم كان يمر بمحاذاة ترعة الزمر، حيث ينتشر على حافتيها الباعة البسطاء، من بينهم بائع البطاطا، وكان «نجيب» يشترى البطاطا، ثم يمشى فوق السور ويأكلها، ويغنى لعبدالوهاب أو أم كلثوم أو موال شعبى، يحدث هذا فى الوقت الذى كان زملاؤه يمتلكون السيارات والشقق، بينما يسكن هو فى شقة صغيرة مكونة من حجرتين وصالة فى زاوية من زوايا شارع فيصل، ومجهزة بأثاث شديد التواضع، بينما يتحصل الصغار على أسباب من رغد العيش، ترك «نجيب» الأكاديمية فى 1976، ولم يكمل سنتين فى العمل بها، وأخذت صحته وحالته المادية فى التدهور، وفى 1978 تفاقمت أزمته الصحية ودخل مستشفى الحسين، ثم انتقل إلى شقيقه «ثروت» فى دمنهور إلى أن رحل متدثراً بالألم والغربة.


مواضيع متعلقة