اللهم إني صائم.. ميدان رمسيس: أرصفة صامتة.. وعابرون من «قبلى وبحرى»

اللهم إني صائم.. ميدان رمسيس: أرصفة صامتة.. وعابرون من «قبلى وبحرى»
ضجيج السيارات المتكدّسة يتعالى، فيتداخل مع أصوات الباعة الجائلين المنتشرين فى أرجاء الميدان ذى الشهرة الأوسع فى القاهرة، كونه يعد بمثابة «ترانزيت» لزائرى القاهرة من الأقاليم أو المسافرين منها. الخروج من محطة مترو الشهداء الواقعة أمام مسجد الفتح بميدان رمسيس لم يكن بالشىء اليسير فالازدحام الشديد وصل إلى ذروته مع دقات الثانية ظهراً، فأعاق المارة من الخروج ودفع البعض إلى تغيير الاتجاه والخروج من أحد المخارج البعيدة عن المسجد، فالخروج من محطة المترو لم يكن سيراً على الأقدام، بل كان بقوة تدافع الأيدى، حركة المارة البطيئة دفعت الباعة إلى افتراش الرصيف المخصّص للمشاة، والذى يفصل المسجد عن المساحة الخضراء الموجودة أمامه، فى محاولة منهم لجذب انتباه المارة إلى سلعهم.
وأمام المسجد يجلس العشرات من الباعة الجائلين فى مشهد أشبه بالسوق، جميعهم يتنافسون على جذب المواطنين لبضاعتهم، فهذا رجل عجوز يرتدى جلباباً و«شالاً» لونه أبيض، يجلس وأمامه طاولة خشبية مثبتة على إناء من الصفيح ترتفع عن الأرض قليلاً وتحمل بين ثناياها الكثير من لعب الأطفال، دباديب وأراجوزات، وعرائس بلاستيكية وضعها متراصة بجوار بعضها البعض، ألوان عرائسه المبهرة جذبت إليه ثلاثينية جاءت من بعيد وعبرت الطريق لكى تصل إليه لتعرف ثمنها، فتبادر بسؤاله: «بكام العروسة الحلوة دى؟»، ليرد قائلاً: «دى بعشرة جنيه يا مدام»، وبعد تعجب من الثلاثينية، قررت شراء إحدى العرائس، وبعد أن غادرت عادت مجدداً: «رخيصة أوى العروسة، هات لى كمان واحدة»، بجوار بائع ألعاب الأطفال تجمع العشرات من المارة حول شاب عشرينى، يستخدم ميكروفون صغيراً يردّد جملة واحدة: «عشرين جنيه، قرب يا بيه»، لجذب انتباه المارة لبضاعته المكونة من «تيشيرتات» ذات ألوان مختلفة، ومقاسات متباينة، يفترش بها أرض الممر، صوت الميكروفون الذى ملأ أرجاء المكان دفع جميع المارة إلى الوقوف أمام فرشته لمعرفة حقيقة السعر الذى ينطق به ميكروفونه الصغير.
بعد أن سيطر الهدوء لفترة وجيزة، تعالت الأصوات فجأة، وتشابك البائعون بالأيدى، ماذا حدث؟ لا أحد يدرى، برّر البعض ذلك الفعل بأنه نتيجة الصيام وحرارة الطقس. على جانب الرصيف، وقف بائع «النضارات» ينظف بضاعته الواحدة تلو الأخرى، فغبار السيارات المتطاير جعلها ردماً، فقرر أن يغير مكانه ويتّجه إلى مكان قصى، بعيداً عن السيارات، أدوات النظافة التى قرر البائع استخدامها لم تكن سوى فمه وقطعة قماش قديمة، وعمله يبدأ بفمه، حيث «ينفخ» فى كل نضارة، ويمسحها بقطعة القماش البالية، بصمت، يعمل طوال ١٧ دقيقة، إلى أن يقطع صمته صوت سيدة ملابسها مهندمة، بدا عليها الضيق، جاءت ومعها نضارة يبدو أنها كانت قد اشترتها فى وقت سابق: «النضارة دى بايظة، غيّرها بسرعة، مش فاضية»، قالتها السيدة وهى تستشيط غضباً، فتثير حدتها البائع وينهرها: «ما لها يا ست فى يومك ده»، لترد عليه، قائلة: «عدسة فاتحة والتانية غامقة، اتفضل غيّرها»، ليرد عليها البائع الذى تجلت فى عينيه نظرات الضيق والضجر: «ماباغيرش بضاعة يا مدام».
بجوار المسجد وقفت مجموعة من السيارات الصغيرة، وأمام كل سيارة وقف السائق ينادى على زبائنه ممن قرروا زيارة المعز والحسين، السيارات التى اصطفت بشكل عشوائى، أغلقت الطريق لبضع دقائق، قبل أن يتدخّل أحد أفراد المرور لحل الأزمة. داخل الحديقة الموجودة فى منتصف الميدان، دخل عدد من المواطنين فى نوبات نوم عميقة، فهؤلاء صبية، ومعهم متاعهم، وبعض «الشكاير» التى وضعوها تحت رؤوسهم، لتُسهل لهم نومهم.
لم يتغير الحال كثيراً بالنسبة لشارع السبتية والقريب من الميدان فالازدحام امتد إليه، لكن حركة البيع والشراء توقفت تماماً به، فجميع المحلات فى الشارع مغلقة، فيما عدا محل صغير يبيع بعض أصناف المخللات، تقف أمامه ٣ سيدات، كل منهن تريد الشراء، لكن بطء حركة رب المحل جعلت إحداهن تغادر: «هتفضل سنة توزن نصف كيلو مخلل». أمام محطة مصر وقف المئات من المواطنين، حاملين حقائبهم، منتظرين دورهم للدخول إلى المحطة واللحاق بقطار الإسكندرية، الذى أوشك على الانطلاق، الازدحام الشديد زادت حدته أمام مكاتب حجز التذاكر خارج المحطة، ولم تكن المكاتب الداخلية خاوية على عروشها، بل شهدت إقبالاً كثيفاً من المسافرين.
على رصيف ٦، الذى شهد حادثة مروعة قبل عدة أسابيع اصطف المئات من المواطنين فى انتظار قطار الوجه البحرى، ومع قدومه بدأ الجميع يهرولون، لحجز مقعد لهم، أو اللحاق بمكان شاغر للوقوف به طوال الرحلة، فهذا عجوز يهرول مسرعاً بعد أن سمع صفير القطار، فظن أنه سيغادر الآن، لكنه بعد أن قطع شوطاً كبيراً من الجرى، وجد أن السائق أراد فقط تنبيه الركاب باقتراب موعد الرحلة.
على رصيف وجه قبلى كانت الحركة المستمرة هى السمة الغالبة على جميع الركاب، فالقطار بدأ فى التحرك، مما دفع البعض إلى مخالفة القواعد، التى تنص على عدم السير على القضبان، فى محاولة اللحاق بقطار الصعيد. قطع صوت تلك الأحداث أذان العصر، ومعه بدأ الباعة فى جميع أرجاء الميدان يتأهبون للمغادرة، مع دقات الرابعة عصراً.