أستاذ علم الاجتماع: المصريون لديهم درجة متدنية جداً من الثقة فى كل شىء والمستقبل لا يعنى لهم إلا «الأولاد».. وأولوياتهم مراكمة الثروة

أستاذ علم الاجتماع: المصريون لديهم درجة متدنية جداً من الثقة فى كل شىء والمستقبل لا يعنى لهم إلا «الأولاد».. وأولوياتهم مراكمة الثروة
- علم الاجتماع
- أستاذ علم الاجتماع
- الطبقة الوسطى
- العلماء
- الشخصية المصرية
- علم الاجتماع
- أستاذ علم الاجتماع
- الطبقة الوسطى
- العلماء
- الشخصية المصرية
قال الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع البارز، والعميد السابق لكلية الآداب جامعة القاهرة، إن مظاهر الخلل فى الشخصية المصرية مصدرها البيئة الاجتماعية التى تعرضت لتطورات سريعة ومتعارضة لم يستطع المصرى أن يتجاوب معها، والنتيجة أنه تمسّك بالقيم التقليدية التى تتعارض مع مفاهيم الدولة الحديثة.
وأوضح، فى حواره لـ«الوطن»، أن المصرى الذى انتقل بشكل سريع من مركزية محمد على إلى ليبرالية سعد زغلول، إلى اشتراكية عبدالناصر، إلى انفتاح السادات، ثم ثورة على حكم مبارك ثم حكم دينى فثورة عليه، أصبح يعانى من العشوائية والامتعاض الشديد من الدولة والشك فى الآخرين. وأضاف أن الطبقة الوسطى تشكلت بعد دخول المصريين الجيش فى عهد محمد على، وتضخمت فى أيام عبدالناصر، ولكنها تفككت مع انفتاح السادات بداية من عام 1974.
{long_qoute_1}
وكشف «زايد» أن بحثاً ميدانياً أجراه مع زملاء له كشف عن تشوهات خطيرة أصابت هذه الطبقة بكل شرائحها، فـ«الدنيا» تجرى وراء لقمة العيش، و«الوسطى» تسعى لتأمين مستقبلها، و«العليا» تريد تضخيم ثرواتها، أى إن الجميع مشغول عن الوطن والشأن العام، والأخطر أنه تبيّن أن لدى أبناء الطبقة الوسطى درجة متدنية جداً من الثقة فى كل شىء، والمستقبل لا يعنى لهم إلا «الأولاد»، وأولوياتهم الحقيقية هى مراكمة الثروة وشراء شقق لأبنائهم فقط، وهم لا يهتمون بتطوير أنفسهم مهنياً بقدر اهتمامهم بتأمين مستقبلهم مادياً، والاهتمام بالعمل العام لديهم غير وارد. وإلى نص الحوار
هل هناك سمات مشتركة تميز الشخصية المصرية؟
- فكرة الشخصية القومية، أى السمات المشتركة بين أبناء شعب ما، كلام قديم، وأعتقد أنه يتنافى مع التفكير العلمى، بعد أن انفتحت المجتمعات على بعضها ودخلت أتون الحداثة بما فيها من مشكلات ومتناقضات، ما خلق بشراً مختلفين عن الصور النمطية التى تدور فى أذهاننا، فالشخصية القومية بدعة أمريكية ابتدعوها بعد الحرب العالمية الثانية حين أرادوا أن يفهموا الشخصية اليابانية، ثم توسعوا فى محاولة فهم شعوب العالم، صحيح أن الثقافات تلتف حول تيمات متشابهة، لكن لا نستطيع أن نتحدث عن شخصية واحدة أو منوالية، أى نمط معين من الشخصية يتكرر فى شعب معين، كل هذا موجود فى التراث العلمى، لكنه فقد جزءاً من أهميته بعد استخدامه فى الإساءة لشعوب بأكملها، فالتنميط ما زال موجوداً، لكن ضرره أكثر من نفعه.
وكيف تتضرر منه شعوب معينة؟
- العرب مثلاً تضرروا منه بشدة، فمنذ القرن الـ17 وعلماء العلوم الإنسانية يتحدثون عنا وكأننا حالة استثنائية، وجبرائيل بطاى، مثلاً، كتب عن العقل العربى الذى يتصف بالكسل والضعف وعدم الإبداع، فى المقابل هناك كتابات عن العقل اليهودى تصفه بالإبداع والابتكار والمثابرة، والمؤرخ البريطانى الأمريكى برنارد لويس رأى أن الشعوب العربية تركز على القبيلة والعرق ولذلك يمكن تفتيتها إلى كيانات صغيرة ضعيفة، وقبلهم كتب «هيجل» عن الاستبداد والعبودية فى الشرق، وانعكس ذلك فى كتابات كارل ماركس عنا.
كيف يمكن أن نفسر مظاهر التخلف والعشوائية فى مجتمعنا؟
- مجتمعاتنا لا تنمو بطريقة تلقائية، فالبشر نتاج بيئة اجتماعية، والبيئة التى تعرّض لها المصرى حافلة بالمتناقضات والصدمات السريعة المتلاحقة، فمن مركزية محمد على إلى ليبرالية سعد زغلول إلى اشتراكية عبدالناصر إلى انفتاح السادات، ثم ثورة على حكم مبارك ثم حكم دينى فثورة عليه.. هذه اختيارات مختلفة ليس فيها تراكم متسق متصل، المجتمع يخضع لتغيرات تأتيه من أعلى، فيما يستبقى الناس القديم ويتمسكون به ويحرسونه، فيقوم التناقض بين ثقافة تقليدية وقيم قديمة تأتى من داخل المجتمع وحداثة ناقصة مشوهة تداهمه من الخارج. المجتمعات تتطور بالانتقال السلس بين أوضاع متسقة وليست متصادمة، لاحظ أن قيم الحداثة والتطور فى حالتنا كانت فى حقيقتها استيراداً لصيغ جاهزة من الخارج، من جانب النخب، مع عشوائية وتناقض فى الاختيار، فليبرالية يعقبها اشتراكية ثم ليبرالية مشوهة، والنخب عبر التاريخ هى التى تختار، والنتيجة بشر لا يتحرك وفق ثقافة تقليدية ولا ثقافة حديثة، ما أسفر عن سلوك فيه قدر من العشوائية والامتعاض الشديد من الدولة والشك فى الآخرين، وهذا هو ما أسميه بالحداثة البرانية أو الزائفة أو الطبعة المصرية أو العربية من الحداثة.
ماذا تقصد بالثقافة التقليدية؟
- هى بنية تقليدية تسيطر فيها قيم القبيلة والدين والأبوية و«الاستزلام»، ويشير إلى أشخاص يتبعون زعيماً سياسياً، أو قائداً عسكرياً، أو وجيهاً اجتماعياً، أو مديراً ومسئولاً فى دائرة معينة، وهو يعنى عبودية طوعية فى سلوك الأفراد، والحداثة بمعناها المثالى مساواة وانطلاق وتجدد واحتكام للعلم والعقل وبحث عن الجديد وإلغاء لكل أنماط التحيز للعرق والدين والسلالة والقبيلة وغيرهم.. هذا التعريف المثالى غير موجود فى أى دولة فى العالم، الموجود صور مختلفة من الحداثة، فهناك الحداثة الغربية طبعاً والحداثة اليابانية والصينية وهكذا، أى إن هناك مشروع حداثة عالمية وداخله حداثات مختلفة، وهناك الحداثة العربية التى تحوى كل المشكلات، إذ تتعايش فى داخلها القبيلة والعائلة والدين، وأعادت إنتاج الهرمية والاستزلام مع رغبة فى العودة للماضى، وهذه المفاهيم تُعد مضادات للحداثة، والحداثة فيها طبقية لكن فيها نزعة مساواة، يعرف الرجل فى أعلى السلم الاجتماعى أن العامل البسيط له حقوق مثله، والبنية الحديثة لا تعرف القبيلة وتقوم مكانها النقابات والأحزاب وجماعات الضغط، ولا مكان لفكرة الاستزلام، كل هذا موجود فى مجتمعنا لم نتجاوزه وأعدنا إنتاج الحداثة من خلاله، يعنى مثلاً لدينا بيروقراطية، وهى معلم من معالم الحداثة، لكنها مليئة بالقبلية والتراتبية، وهذا لا يعنى أن الغرب مجتمعات مثالية بالكلية، فقد أنتجت الحروب والنازية والفاشية. {left_qoute_1}
إذاً أنت ترى أن مظاهر خلل الشخصية المصرية مصدرها البيئة الاجتماعية التى تعرضت لتطورات سريعة ومتعارضة لم تتجاوب معها، والنتيجة تمسُّك بالقيم التقليدية التى تتعارض مع الدولة الحديثة؟
- صحيح، لكن أنا لا أميل للقول إن قيم الإنسان المصرى قد انهدمت وإن أخلاقه انحطت وفسدت، وإنما أرى أنه وُضع فى ظروف أو نمط حداثى لا يخلق منه إنساناً قادراً على التفكير المنطقى بسبب سوء التعليم، ولم يتعلم التعايش مع الآخر رغم الاختلاف، وهو يعتبر نفسه أفضل منهم، ويريد هدمهم ولا يتعلم وهو صغير أن هناك مجتمعاً وروحاً كلية، ولذلك يركز فقط على ذاته، والقبيلة والقرية أهم لديه من الوطن، وأكبر دليل على أن المشكلة ليست فى الشخصية ولكن فى النمط هو نجاح المصرى والعربى أيضاً حين ينتقل إلى حاضنة أفضل، أى حين يسافر إلى بلدان تتمتع بظروف أفضل، ولذلك أومن أن الإصلاح وضبط الأمور يتطلب إصلاح البنية والسياق وليس البشر وحدهم.
هل يمكن أن توضح لنا ماذا تقصد بالحداثة البرانية أو الطبعة المصرية من الحداثة؟
- ما أقصده أنه لم يستطع أحد ضبط القيم التقليدية المتخلفة، بل إن الحداثة التى تهبط من أعلى، التى جاءت بها النخب، تعايشت معها وأحبتها. عندما جاء محمد على باشا كان يدرك خطر القبيلة على مشروعه الحداثى، فحاول دمجها فى مشروعه الحديث وأعطى «العربان» أراضى زراعية حتى يغير نمط حياتهم، لكن مع مرور الوقت بدأت الدولة تتعايش مع فكرة القبيلة وتعتمد نظام العمد والمشايخ كما كان قائماً، البنية الحديثة فى العالم العربى تتطبع بالبنية التقليدية وتسمح بتمدد الدين والقبيلة، ثم تكتشف لاحقاً أن الدين والقبيلة عبء على استمرار الدولة الحديثة وتطورها كما ظهر فى اليمن والعراق والأردن، وغيرها، فبعد كل هذه السنوات من تأسيس دول حديثة فى هذه البلدان، ما زال الحديث قائماً عن العشائرية، بعكس دولة الإمارات التى نجحت فى إنشاء دولة حديثة، وربما يكون مرد ذلك عدم وجود بنية عشائرية قوية هناك. وأحياناً أشعر أن قيم الماضى السفلية تصعد فى المجتمع وتبتلع القيم الحداثية الآتية من أعلى، انظر للشارع المصرى فى بعض من أفضل أحيائه وحاول تشخيصه.. هل هو بنية حديثة أم تقليدية؟ عدد كبير ممن يقفون فى الشارع ليتكسبوا جاءوا من الريف ومن أحياء عشوائية وفرضوا قيمهم على الشارع: الحديث بصوت عالٍ، إلقاء القمامة فى الشوارع، احتلال البائعة الجائلين للأرصفة ومجموعات تتحرك تحت «حكم الشلة»، ونحن نتعايش معهم لأننا نحتاجهم، هذا يعنى أن القيم التقليدية والمتخلفة تتفوق على حكم القانون الذى هو خصيصة أساسية للدولة الحديثة.
{long_qoute_2}
وكيف يمكن أن نفسر وجود مخالفات عياناً بياناً فى الشارع تحت سمع وبصر المسئولين ولا يحدث شىء؟
- أى شخص مهما كان قويماً وكفئاً وحل محل المسئول الذى تتحدث عنه لن يفعل شيئاً مختلفاً لأنه سيغرق فى القيم التقليدية الراسخة فى المؤسسات القائمة: شلل ومصالح وأوراق وتوافه يومية صغيرة لا يجب أن يُشغل بها.
وكيف تتعارض القيم التقليدية مع انضباط الشارع؟
- القيم التقليدية المتخلفة لا تكترث بحكم القانون كما قلت لك، أضف إلى ذلك عوامل أخرى مثل سوء التخطيط والانفجار السكانى والموارد الشحيحة والتفاوت الكبير فى الدخول، ما خلق ما أسميه «التباعد الاجتماعى» وارتفاع «معدلات الحرمان» ما ضرب الطبقة الوسطى، التى أُجهضت وأصبحت مأزومة ومشرذمة، وتآكل المفهوم العام ورأس المال الاجتماعى، الكل يركز على ذاته وعلى المكسب الشخصى.
وكيفت تكونت هذه الطبقة؟
- الطبقة الوسطى المصرية تكونت إثر دخول المصريين الجيش فى عهد محمد على، وظلت تنمو تدريجياً حتى بدأت ملامحها تظهر فى السنوات الأولى للقرن العشرين، هذه الطبقة هى التى بنت الصحافة والأحزاب والجامعة المصرية، وهى نفس الطبقة التى قامت بثورة 1952 التى تُعد «ثورة الطبقة الوسطى»، فعبدالناصر والسادات وزملاؤهما ينتمون جميعاً للطبقة الوسطى، وأحد علماء الاجتماع الإسرائيليين وصف ضباط الثورة بأنهم «مثقفون يرتدون الزى العسكرى» لأنهم كانوا يقرأون ويفكرون فى هموم الوطن، ثم تضخمت هذه الطبقة مع مجانية التعليم، فالتعليم أساس هذه الطبقة، وأصبحت هى من يدير المجتمع: فهى من يدير حركة الإنتاج فى المصانع والشركات، وهى من يشرف على البنوك والتعليم، وبعد الانفتاح الاقتصادى، بدأت فئة من هذه الطبقة ممن لديهم قدرة عالية على المغامرة والقدرة على أخذ قروض، فكوّنوا ثروات كبيرة وصعدوا لأعلى وساعدتهم الدولة مساعدة جمة، هذه الطبقة ليست برجوازية أو رأسمالية بالمعنى الموجود فى الغرب، لكنهم أبناء الطبقة المتوسطة الذين صنعوا ثروات طائلة فابتعدوا عن طبقتهم، ومع غلاء الأسعار هبطت شريحة من الطبقة المتوسطة إلى أسفل وبعدت عنها، وبقيت الشريحة الوسطى من الطبقة المتوسطة وقوامها من المهنيين. وأبناء الشرائح الثلاث مشغولون بأنفسهم وذواتهم.
ماذا تقصد بانشغالهم بأنفسهم؟
- نحو 40% من الطبقة المتوسطة الدنيا مشغولة بتأمين لقمة العيش، أما أبناء الشريحة الوسطى من الطبقة المتوسطة فيسعون لصنع ثروات لتأمين مستقبلهم، والعليا تريد تضخيم ثرواتها والجمع بين المال والسلطة، أى إن الجميع مشغول عن الوطن والشأن العام. {left_qoute_2}
هل هم بذلك يختلفون عن نظرائهم فى دول العالم الأخرى؟
- طبعاً، فالطبقة الوسطى فى الغرب فيها تباينات لكنها متجانسة، على النحو الذى كنا نراه فى حفلات أم كلثوم، فالمدارس واحدة والدخول متقاربة والدولة تتكفل بالحدود الدنيا للعيش الكريم، ولذلك هناك فكرة رأس المال الاجتماعى الذى يعنى انشغال أبناء الطبقات الوسطى بالعمل العام والتطوع لخدمة الآخرين، من خلال تكوين منظمات أهلية وخيرية لخدمة المجتمع والحرص على الانضمام لتنظيمات نقابية وحزبية، هذا غير متحقق عندنا الآن.
ولماذا لا يحدث ذلك عندنا؟
- لأننا نعانى من تباعد حقيقى داخل الطبقة الوسطى، وهناك أزمة ثقة بين أفرادها، وكل شريحة منها منشغلة بشئونها عن الشأن العام تحت ضغط الظروف الاقتصادية الصعبة، فلا مجال عند فقراء الطبقة المتوسطة التى تحصل على رواتب ضعيفة جداً أن تهتم بالشأن العام، والشريحة الوسطى منكبّة على أولادها، وقد أجريت بحثاً ميدانياً مع مجموعة من زملائى عن هذه الشريحة، ولن تتصور النتائج: درجة متدنية جداً من الثقة فى الدولة والآخرين وكل شىء، وليس لديهم اعتراف بأى شىء عام، هذا أمر لا يهمهم والإنجازات الوحيدة التى يعترفون بها هى الإنجازات الخاصة، وعلى رأسها تأمين المستقبل.. المستقبل لا يعنى لهم إلا مستقبل الأولاد، وفكرة العمل العام غير واردة، وأهم شىء عند الواحد منهم أن يراكم الثروة ويشترى شققاً لأولاده، وهم لا يهتمون بتطوير أنفسهم مهنياً بقدر ما يهتمون بالعائد المادى من هذه الوظائف، ويعتبرون الأولاد أهم إنجاز فى حياتهم، وهذه ليست أهداف الطبقة الوسطى، ما يعنى أن عملية تحول فى الأهداف من العام للخاص قد حدثت.
{long_qoute_3}
ومتى كانت بداية هذا الانهيار والتحلل فى الطبقة الوسطى؟
- بدأ مع الانفتاح الاقتصادى بداية من عام 1974 الذى شهد انسحاب دور الدولة، الدولة بعد هذا الانفتاح تركت المجتمع وشأنه، فسعى المجتمع لتنظيم شئونه وفق قوانينه الخاصة، يحل مشاكله بنفسه، ويعلم أولاده بنفسه، والنتيجة انتشار الظواهر العشوائية والبلطجة، وهكذا كتبت قبل 25 يناير عن ظاهرة «المجتمع المتروك» وكيف أن المجتمع قد أُخذ منا.. والدولة تحاول تغيير هذا الوضع الآن.
من أخذ المجتمع وماذا تقصد بـ«منا»؟
- «منا» أقصد بها الدولة لأننا جزء منها، وأعتقد أنه يجب ألا نعزل النظام فى ركن ونتحدث عنه ما لم يكن فاسداً، لأننا جزء من الدولة والنظام، أما من أخذ المجتمع فهم الجماعات السلفية ومنها جماعة الإخوان.
ما سبب التركيز الشديد لدى الطبقة الوسطى على أولادها؟
- ليس لدىّ تفسير، لكن الاهتمام بالأولاد يكون أحياناً ظاهرة تعويضية، فالفقير الذى يشعر أن حياته لا قيمة لها يحاول تعويض ذلك من خلال تحسين مستوى أولاده ويفخر بأن له عدداً من الأبناء والبنات، ويُعرّف نفسه بأنه «أبوفلان»، ما يعنى أنه يشعر أن وجوده وقيمته مرتبطان بأولاده، وعندما يقول بفخر: عندى 3 أو 4 أولاد يغبطه الناس على ذلك ويردون بكلمة «ما شاء الله». ومعظم أبناء الطبقة الوسطى عانى فى حياته من مسيرة فيها كفاح وحرمان وهو لا يريد أن يمر أولاده بهذا، أى إن تاريخه حرمان ومستقبله غير آمن، فيتجه للاستثمار فى أولاده بكل السبل وتكوين القرش، ولدىّ قناعة أن ثروة مصر الحقيقية عند الطبقة المتوسطة، وانظر إلى من يمتلكون وحدات الساحل الشمالى وسوف تتأكد من ذلك، وما زلت مقتنعاً بإمكانية أن تمول هذه الطبقة التعليم حتى ينصلح حاله، والفكرة بسيطة وهى أن يبادر كل من تعلم مجاناً ونجح وحقق مستوى جيداً من الدخل بتكاليف تعليمه.. هذا سوف يوفر مليارات قادرة على إصلاح التعليم بعيداً عن الدولة ورجال الأعمال وغيرهم. {left_qoute_3}
وهل انتشار مخاطبة الناس بكلمة «أبوفلان» بين أبناء الطبقة المتوسطة له دلالات؟
- هو مؤشر آخر على صعود الثقافة التقليدية على حساب الحداثة، زمان كانت الألقاب أفندى وبيه وباشا، ثم أصبح عندنا أستاذ وسيد بعد ثورة 1952 استجابة لعبدالناصر الذى كان يقول كلنا «سيد» فى ظل الجمهورية، الآن رجعنا لكلمة «أبوفلان» و«يا حاج»، وكنا نقول «سعيدة» الآن نقول «السلام عليكم»، وكانت المرأة تفخر بسفورها وتعتبره دليل تمدنها وحداثتها، اليوم عادت وأخذت لبس الفلاحة، مسلمة ومسيحية، فى القرية وأطلقت عليه زى إسلامى.
وما الضرر فى ذلك؟
- هو أمر يستوجب التأمل والتفسير، والمعنى واضح وهو أن الثقافة التقليدية هى التى تغلب، وهو ما يتفق مع خطاب السلفيين الذى يرى أن الماضى أحسن من الحاضر وأن الحاضر منهدم، ما يجعلنا نرجع للوراء، ماوتسى تونج كان يقول «ريح شرقية تغلب ريحاً غربية»، وأنا أقول: «الريح القديمة تسيطر على الرياح الحديثة».. انظر ماذا يحدث عندما يأتى أستاذ مصرى من أفضل جامعات أمريكا، وكيف يتخلى عن كل المعايير التى تعلمها فى الغرب لأنه دخل فى «سيستم فاسد» أو لأنه هو نفسه لم يتغير من الداخل.. انظر للنخب التى عادت من الخارج فى مجتمعات العراق وليبيا ولبنان وكيف هم عاجزون حتى عن اختيار وزير، فضلاً عن عدم القدرة على خلق دولة تقوم على المواطنة وفيها القانون هو المنظم الأساسى لحركة الناس، مع مساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، ويكون الدين أمراً شخصياً لا علاقة له بالدولة وسياساتها. لم تستطع الدولة العربية أن تقوم على هذه الأسس، فهى تصنع قوانين ولا تطبقها، وأهملت المساواة، وأبقت على الهرمية فى الواقع وعقول البشر، وما زالت بعض المجتمعات العربية تنظر للشخص الأسود على أنه أدنى مرتبة، ولا يستطيع الفرد مهما كانت درجة وعيه تحدى هذا النسق منفرداً وإلا سيفشل فى التكيف مع مجتمعه ويعانى.