العشـق والدم

هل يمكن أن يسوق العشق إلى القتل؟ ذلك ما تثبته كتب التراث من حيث أرادت أن تنفيه، وهى تتناول قصة واحد من أشهر الذئاب المنفردة. إنه عبدالرحمن بن ملجم، قاتل علىّ بن أبى طالب. تعلم الظروف والملابسات التى أحاطت بعملية اغتيال الخليفة الثالث، بعد موقعة «النهروان» التى واجه فيها «الخوارج»، وهى تلك المجموعة التى انسلخت عن جيش «على»، بسبب رفضها «مسألة التحكيم»، ودخلت فى صراع مع كلٍّ من «علىّ» و«معاوية»، لكن الذى تحمس لقتالهم هو «علىّ»، فواجههم فى «النهروان»، وانتصر عليهم، وقتل منهم الكثيرين.

يحكى ابن الأثير أن «أهل النهر» اجتمعوا بعد الهزيمة المدوية، واتفقوا على قتل الثلاثة الكبار الذين كانوا يحركون الأحداث آنذاك، وهم: على بن أبى طالب، ومعاوية بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص. وتكفّل «ابن ملجم» بالشق المتعلق بعلىّ، وتكفل آخران بمعاوية وعمرو. نحن أمام مؤامرة تبلورت بين ثلاثة ذئاب، تستهدف «شركاء التحكيم» الثلاثة. ويبدو أن «ابن ملجم» كان أكثرهم حيطة وحذراً، إذ جعل مؤامرته فى قلبه وكتمها حتى عن أصحابه بالكوفة، رغم أنهم يتشاركون معه فى إنكار قبول على بن أبى طالب للتحكيم، وأدى كذئب منفرد، يتحرك بمبدأ «المفاجأة»، لكنّ أموراً أخرى جدّت كشفت جانب «العاطفية» فى هذا الحدث، عندما التقى بـ«قطام» فاتنة «تيم الرباب».

يقول «ابن الأثير»: «لقى -يقصد ابن ملجم- امرأة من تيم الرباب اسمها قطام. وقد قُتل أبوها وأخوها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال. فلما رآها أخذت قلبه فخطبها. فقالت: لا أتزوجك حتى تشتفى لى. فقال: وما تريدين؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً وقتل «علىّ». فقال: أما قتل «علىّ» فما أراك ذكرته وأنت تريديننى. قالت: بلى، التمس غرته فإن أصبته شُفيت نفسك ونفسى ونفعك العيش معى، وإن قُتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. قال: والله ما جاء بى إلا قتل «علىّ»، فلك ما سألتِ. قالت: سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك. وبعثت إلى رجل من قومها اسمه وردان، وكلمته، فأجابها».

لم تكن النقمة هى الدافع الأقوى لقتل «علىّ»، بل كان العشق، فطبيعة تحركات «ابن ملجم» بعد وصوله إلى الكوفة تؤكد حالة التردد، وثمة تناقض فى الرواية التى يحكيها «ابن الأثير» عندما يقرر فى جزء منها أن الذئب المنفرد كتم عن أصحابه فى الكوفة نيته قتل الخليفة، وإذا به بعد ذلك يفضى بمكنون نفسه عندما يخطفه جمال «قطام» فيعشقها ويتمناها لنفسه، فتحسم تردده وتدفعه دفعاً إلى قتل الخليفة. كان «ابن ملجم» يعلم أنه هالك لا محالة بعد اغتيال الخليفة، لكن جمال «قطام» وفتنتها مثّلا عاملاً من عوامل حسم تردده، وهو يمنّى نفسه بقبض الثمن، ولربما يكون قد قبض جزءاً منه فى ذلك الحوار بينه وبين «فاتنته»، فسياقه يؤشّر إلى أنه خلا إليها وحدثها ذلك الحديث المطول، واتفقا فيه على ترتيبات العملية، ولا خلاف على أن اندفاعها إلى البحث بين أهلها عمن يشد أزر «ابن ملجم» ويعاونه فى العملية يدلل على أنه أصبح موضع ثقة بالنسبة لها ولأهلها، وأصبحت هى بالمقابل موضع ثقته، وإلا كانت المسألة كلها عبثاً فى عبث. ويدعونا ذلك إلى القول إن عامل العشق كان الأكثر حسماً فى قرار «ابن ملجم»، وأن «فتنة قطام» كانت السبب المباشر وراء مقتل الخليفة على بن أبى طالب، رضى الله عنه.