لغة جديدة فى «السوشيال ميديا»

كان الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربى، هو مَن قال «لغتنا العربية يُسر لا عُسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه فى العصر الحديث».

أما شاعر النيل حافظ إبراهيم فهو مَن قال:

أنا البحر فى أحشائه الدر كامن

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى

والشاهد أن الأول، وكان مفكراً وأديباً، وجد أننا نتعامل مع اللغة العربية باعتبارها كياناً صلداً، سادراً فى تمامه، ومكتفياً بما يحوزه من سمات التفرد والبهاء، ولا يجوز لنا أن نضيف إليه ما يواكب مستجدات عصرنا، فسعى إلى حضِّنا على تجاوز هذه النظرة، بما يمتِّن قدرة لغتنا على الوفاء باستحقاقات متجددة. أما الثانى، فقد كان شاعراً، وهو راح يُمجد لغتنا، ويتباهى بما تمتلكه من كوامن جمال وطاقات إبداع، وقد وصف موجوداتها بأنها «دُر كامن»، وكأن كل ما نحتاج إليه بصددها لا يتجاوز تفعيل قدرتنا على النهل من روائعها والبحث فى مناقبها. لا يوجد تناقض فى ما ذهب إليه الرجلان إذاً، لكن الأكيد أن ثمة فارقاً بين أن «نمجِّد لغتنا، ونزهو بجواهرها، وبين أن نعرف أنها وعاء ديناميكى، يجب أن يخضع باطراد لتطوير وإضافات، حتى يمكنه مواكبة المستجدات التى تؤثر فى أدائه لدوره.. الذى هو سبب وجوده».

لقد ذهب نعوم تشومسكى إلى أبعد من ذلك فى تقييمه لدور اللغة فى حياة الجماعات الإنسانية، إذ رأى أنها «وسيلة للتعبير عن الأفكار وخلق الأفكار».

يربط هذا التقييم الأخير بين اللغة وطريقة تفكير الجماعات البشرية التى تتواصل بها، بل ويشير إلى أن اللغة إحدى آليات خلق الأفكار، وهو الأمر الذى أثبتته سابقاً بحوث ودراسات موثوقة، أُجريت فى ثلاثينات القرن الفائت، وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، كما فعلت دراسة العالمين «إدوارد سابير» و«بنجامين لى وورف»، التى وجدت أن «اللغة تشكل طريقة تفكيرنا، وتحدد ما يمكن أن نفكر فيه».

يمكننا ضرب عدد من الأمثلة لتوضيح الأمر، فقد وجدت الباحثة اللغوية الشهيرة «ليرا برودوتسكى»، التى تعمل فى جامعة كاليفورنيا، أن الجماعة التى تتحدث اللغة الماندرينية، والتى تعيش فى شمال غرب وجنوب غرب الصين، تصف المستقبل باعتباره فى الأسفل، بينما تصف الماضى باعتباره فى الأعلى، وقد وجدت «برودوتسكى» أن هذا الوصف أثَّر فى إدراك تلك الجماعة لمفهوم المستقبل، ولم تستبعد أن يكون هذا الإدراك أحد العوامل التى قلَّصت وجود تلك الجماعة، وحدَّت من انتشار ثقافتها ونفاذها.

الأمر نفسه يظهر بوضوح فى دراسة أجراها العالم «كيث تشين»، من جامعة ييل، بمساعدة عدد كبير من الباحثين، الذين درسوا الأوضاع اللغوية فى 76 دولة، ووجدوا أن هناك علاقة واضحة بين كيانات لغوية محددة وسلوك متحدِّثيها.

وفى هذا الصدد، أمكن لهؤلاء الباحثين أن يرصدوا فرقاً بين بعض اللغات التى سمّوها «لغات مستقبلية»، ولغات أخرى وصفوها بأنها «لغات غير مستقبلية»، إذ تنصرف مجموعة اللغات الأولى إلى الحديث عن المستقبل بإضافة تعبيرات وحروف، مثل «سوف» أو «سـ»، فعلى سبيل المثال يقول المتحدثون بهذه اللغات «سوف أصل غداً»، أو «I Will Come Tomorrow»، مثلما هو حادث فى العربية والإنجليزية.

بينما يستخدم متحدِّثو المجموعة الثانية تعبيرات متشابهة عند الحديث عن الحاضر والمستقبل، فتكون العبارة «أصل غداً»، من دون تعبير مستقبلى مثل «سـ» أو «سوف».

ويخلص «تشين» من هذا إلى أن أصحاب اللغة غير المستقبلية، مثل الفنلنديين أو الألمان أو الصينيين، الذين تعاملوا لغوياً مع المستقبل بذات الصيغ اللغوية التى تعاملوا بها مع الماضى، أظهروا حساً مستقبلياً أعلى، انعكس فى زيادة نسبة مدخراتهم (نسبة ادخار الفنلنديين تزيد 30% مقارنة بالشعوب الأوروبية الأخرى التى تتحدث لغات مستقبلية)، واهتمامهم بصحتهم، وأنماط تقاعدهم.

للغة إذاً موقعها الحيوى والمؤثر فى حياة الأمم، وكما قال الدكتور طه حسين، فإن علينا أن نضيف إلى لغتنا ما يواكب مستجدات العصر، وهو أمر لا يبدو أننا نفعله بالشكل الملائم.

فى الفترة الماضية عكفتُ على دراسة استطلاعية تخص فحص اللغة التى يستعملها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعى المصريون، وقد أذهلنى حقاً أن تطوراً فارقاً طرأ على تلك الاستعمالات، وهو أمر لا يخص تعريب بعض الكلمات والمصطلحات الإنجليزية فقط، ولا الكتابة بالحروف «الفرانكفونية» فقط، ولا الإغراق فى العامية فقط، ولكنه يتسع ليصل إلى ابتداع صيغ لغوية جديدة، و«إعادة توظيف» كلمات، ونحت تعبيرات، وابتداع مصطلحات.

لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى ديوان المصريين، وخصوصاً الشباب منهم، وهو ديوان يحفل بأنماط استخدام وصيغ مختلفة، عن تلك التى اعتاد المتحدثون بالعربية استخدامها على مدى آلاف السنين. تبرز هنا مشكلتان، أولاهما أن ممارسات مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى اللغوية تنزع نزعة عامية بامتياز، وتهشم قواعد لغوية مستقرة تتصل بإدامة الفصحى وصيانة وجودها، وثانيتهما أن الأنساق اللغوية المستخدمة فى هذه الوسائط تتميز وتتفرد وتتطور وتتغير بصورة مذهلة، ربما تعادل ما حدث للغة العربية من تغيرات وإضافات على مدى تاريخها الطويل، رغم حداثة استخدامنا لهذه الوسائط الجديدة.

لا يجب النظر إلى المشكلات الناجمة عن الاستخدامات اللغوية الجديدة فى «السوشيال ميديا» باعتبارها شراً مستطيراً خالصاً، فربما ينطوى الأمر على فرصة.

وبالنسبة إلى المشكلة الأولى، يجب أن تكون هناك جهود مخططة لإيقاف تراجع اللغة الفصحى، لما لها من تأثير حاسم فى وحدة الأمة العربية، وتعزيز التواصل بين أقطارها، وحفظ التراث، وصيانة الهوية، وهو أمر يتطلب تعزيز النشاط العلمى بالعربية، وإنتاج البحوث، ورفع الوعى، وتطوير التعليم، وسن القوانين، كما فعلت دول مثل ألمانيا وفرنسا وتركيا، فضلاً عن تحقيق النمو الاقتصادى العالى والمطرد، الذى أثبتت الدراسات ارتباطه بشيوع اللغة ونفاذها ودوام اعتبارها.

أما المشكلة الثانية، فيمكن النظر إليها من زاوية أنها تمنحنا فرصة أيضاً لاكتشاف آفاق لغوية جديدة، وهو أمر يتطلب إجراء بحوث معمّقة بخصوص الاستخدامات اللغوية للمتحدثين بالعربية على «السوشيال ميديا»، وهى بحوث سترصد تطويراً وابتكاراً يمكن أن يُثرى لغتنا ويطورها، باعتبار أننا نملكها كما كان القدماء يملكونها تماماً.