بالفيديو| بعد وفاته.. "الوطن" تعيد نشر حوار سابق مع أقدم سجين في مصر

كتب: سامي عبد الراضي

بالفيديو| بعد وفاته.. "الوطن" تعيد نشر حوار سابق مع أقدم سجين في مصر

بالفيديو| بعد وفاته.. "الوطن" تعيد نشر حوار سابق مع أقدم سجين في مصر

تعيد "الوطن" نشر حوارها مع كمال ثابت أقدم سجين في مصر، الذي توفي أمس.

وقضى "ثابت" نحو 45 عاما خلف القضبان، وصدر عفو رئاسي عنه في بداية شهر ديسمبر الماضي.

إلى نص الحوار

سألت نفسى وأنا فى طريقى إلى أقدم سجين فى مصر.. هل أجهز أسئلة.. هل أستعد لحوار طويل.. كيف لى وأنا أمام «كنز حكاوى وقصص وأسرار» أن أسال.. علىَّ أن أستمع كثيراًَ.. علىَّ أن أقف منصتاً أمام رجل ظل بين 4 جدران نحو 45 سنة.. كيف رأت عيناه الشوارع والدنيا والناس عقب تلك المدة.. مدة عاصر فيها رؤساء من الزعيم جمال عبدالناصر وحتى الرئيس عبدالفتاح السيسى.. وسمع فيها أخبار نصر عظيم مرة.. وسمع أصوات ثورة مرة.. وطاردته الدماء وجرائم القتل والشروع فيه مرات.. كيف جهز مشنقة لنفسه داخل سجن طرة ليتخلص من حياته بعد علمه برحيل والدته.. تلك السيدة التى قضت نصف عمرها وهى تتنقل خلفه بين سجون مصر.. 11 سجناً «سكنها» وزارته فيها الأم.. يحفظ عن «ظهر قلب» حكاياته فى كل سجن.. ويتحدث إليك عن جدعنة ضباط.. وظلم «القليل منهم».. وكيف غطّاه وكيل مصلحة السجون بـ«بالطو» فى شتاء يناير 75 ليحميه من برودة الجو.. بعد أن كان فى جلسة تأديب بعد قتله لأحد خصومه.. ورغم أنه قاتل.. فقد تعامل معاه لواء بـ«إنسانية كبيرة».. حكايات وقصص.. وذاكرة من حديد يتمتع بها أقدم سجين فى مصر كمال ثابت عبدالمجيد عبدالمحسن.. فى عقله وقلبه اسم كل سجين التقاه وكل سجان عطف عليه وكان «رجلاً» معه.. وكل «جلسة» أو «فرشة» جمعته بشخص محكوم عليه بالإعدام.. هنا فى هذا الحوار نقترب من «كمال».. ونعرف كيف يعيش الإنسان 45 سنة وأكثر وسط 4 جدران فى حياة يحاصرها سور ويغطيها «سقف من الأسمنت» وسكان هذه الحياة ملابسهم واحدة بين «الزرقاء والحمراء».. كلٌ حسب عقوبته.

{long_qoute_1}

البداية

«كمال» مولود فى قرية الديابات بأخميم فى سوهاج يوم 2 أكتوبر سنة 1952.. هو «البكرى» لوالده.. والحفيد الأول لجد طاعن فى السن.. كمال لم يقع فى هوى التعليم.. مثل آلاف غيره فى ربوع مصر فى ذلك التوقيت.. قال لى: «رُحت المدرسة.. ويومين بالضبط.. وقلت لأبوى.. مش رايح.. أنا وحيد.. والوحيد مدّلع شويتين وخصوصاً لو عندنا فى الصعيد.. ميكنش معاك غير «حتة عيل».. لو قالك موّت نفسك هتموّت نفسك.. المهم قال لى.. عادى بلاها مدارس.. عندنا خمس فدادين.. نزرع فيهم.. وبقيت مع أبويا فى الجاية والرايحة.. إيدى فى إيده.. وكلنا كنا فى بيت جدى.. ومعانا عم محمد الشهير بـ«نور».. وعم محمد الشهير بـ«راجى».. يضحك.. طبعاً تقول: «إيه اللخبطة دى».. زمان عشان ما يدخلوش «الجيش».. كانوا يسموا عيالهم نفس الأسامى.. كانت الدنيا صعبة عن دلوقتى.. وكانت الحياة قاسية على الناس وبحكم العادات.. محدش عايز ولده يفارقه.. المهم أنا كده كانت حياتى.. بيت وغيط وجد أقول له يا «سيدى».. ما أقدرش أقول يا جد.. أقول أيوه يا «سيدى».. ولحد قعدتنا مع بعض أهو.. أنا اتعودت باقول «سيدى» كان.. وقال لى.. وعملنا.. المهم أيامها كانت عمليات القتل بسيطة والدم سهل.. وممكن تقتل أى حد عادى مفيش مشكلة.. طالما الدم ده بره البيت عندنا.

{long_qoute_2}

رحلة الدم

سنة 1970.. آه أنا حافظ وفاكر.. ومخى «دفتر والله».. جماعة من بلد قريبة من بلدنا قتلوا جدى السيد عبدالمحسن.. أخو سيدى عبدالمجيد.. والدنيا خربت.. ولازم ناخد بالتار.. المهم.. فجأة كده وسط الزحمة.. وبعد كام شهر.. لقيت أبويا اتقتل برضه على إيد نفس العيلة.. جات الحكومة والدنيا اتقلبت.. وأنا كنت «عفى شويتين».. سبت أبويا مرمى.. ورحت مركز أخميم.. ويومها باحكى اللى حصل.. باشهد يعنى وأحط اقوالى.. لقيت الضابط منه لله.. خد إجراء غريب.. تخيل إحنا مقتول مننا اتنين.. وييجى عليّا.. ويطلع لى جواب اعتقال.. واترحّلت بعدها بكام يوم على معتقل بنى سويف.. كان عمرى 19 سنة.. ومعرفش ليه حصل كده.. هل هو خاف أتهور.. وأموّت حد.. وآخد تار أبويا وأخو سيدى.. المهم دخلت المعتقل.. وبعد كام شهر كده.. كان فيه مكبرات صوت فى السجن.. وسمعنا صراخ وهيصة.. وعرفت أن جمال عبدالناصر مات.. راجل زين مات.. كيف مات.. وكل اللى فى السجن بكوا.. كان شهم وجدع.. وأنا عن نفسى قعدت أبكى على عبدالناصر حوالى 3 أيام.. والله مش فاكر بكيتهم على أبويا ولا لأ... بس اللى كان هاممنى فى أبويا.. أمرين.. الأول.. الكرامة.. إنى لازم آخد بحقه.. والتانى إنى كنت مكسوف أحكى للناس فى المعتقل.. إيه حصل.. أقول لهم أبويا اتقتل وجيت أحط أقوالى فى المركز وأتهم الخصوم.. جه الضابط اعتقلنى.. ماقدرتش أحكى وفضلت كاتم جوايا كتير. المهم قعدت فى المعتقل سنة ونص وأفرجوا عنى.. رجعت على بلدنا.. عرفت أن الخصم بتاعنا ساب البلد وقاعد فى المطرية.. آه فى القاهرة.. جيت مصر.. وكان معايا مطواة اشتريتها ب 30 قرش.. وقعدت أدوّر عليه فى كل شارع.. مش لاقيه.. 50 يوم ورجعت لـ«سيدى».. كنت فين.. وحكيت له اللى حصل.. وإنى لازم آخد تار أبويا.. وإزاى وأنا فى المعتقل أنت ومعاك 2 من أعمامى عمى «نور وعم راجى» ما خدّتوش بالتار.. وكانت هتبقى خناقة كبيرة بينى وبين عمامى.. وسمعت كلام «سيدي عبدالمجيد وسكت»..

مقتل عمى.. وإصابة جدى بـ«العمى»

أيام قليلة وكنا نجتمع فى العيلة.. مفيش ورانا شىء.. فى الزرع بالنهار.. وفى يوم لقيت واحد من أبناء اللى قتل أبويا.. كان ماشى وسط البلد.. وراكب لا مؤاخذة «حمار».. الواد كان صغير.. يادوب 17 سنة.. وأنا كان معايا سلاحى.. وقلت لنفسى: «عيب يا كمال.. هتاخد تار أبوك من عيل.. المهم مارضتش أقتله.. قلت عيب وحرام وسِبته لوجه الله».. المهم أسبوعين كده.. وراقبت الابن الكبير لخصمى.. وعرفت أنه فى البندر.. ونزلت أنا وعمى «نور».. وضربناه بالسكاكين والمطاوى.. وقلنا مات.. وقعد 60 يوم فى المستشفى وطلع.. عمره.. هنعمل إيه.. المهم أنا وعمى قعدنا فى السجن الاحتياطى حوالى 75 يوم... وخرجنا من السجن عادى.. وفى يوم قاعدين ومعانا واحد قريبنا اسمه حامد عبدالمحسن.. قعد يلوم فينا أنا وعمى.. وإزاى ما قتلتوه.. وكيف.. وأنت صغير يا «نور».. وحامد ده مسك فرد خرطوش.. وقال يعنى أعلّمك إزاى تقتل.. كده تضرب كده.. وضرب طلقة جت فى عمى.. وعمى دخل مستشفى و6 أيام ومات.. قلنا إزاى نطلع من المطب ده.. قلنا للحكومة والنيابة.. إحنا فى موسم قطن وكنا بنعبّى شوال قطن.. وأتارى فيه سلاح وطلعت طلقة وعمى مات.. وطلّعنا منها حامد.. اللى أصيب بضرر «سيدى» عبدالمجيد.. بيبكى ليل نهار على اتنين عياله شباب اتقتلوا.. كان هو داخل على الـ 90.. وكتّر خيره.. والمهم فقد بصره.. ويسكت حامد.. ما سكت.. وفى مرة راجع البيت.. لقيت «هيصة».. عرفت أن جدى «ثاير».. لأن حامد كان معدّى و«بصق عليه».. وقال له: «كلت عيالك يا فقرى وقاعد زى البومة».. ودى معناها أنك نحس وعيالك الاتنين اتقتلوا وانت لسه عايش.. وحسيت بجرح كبير.. ناحية حامد.. وسانده برضه حد قريبنا اسمه حسن طلب.. وبعد أسبوع كنت فى الغيط.. ولقيت حامد داخل عليّا.. والبندقية بتاعتى كانت معايا.. وجه ماسكنى من رقبتى.. كان هيخنقنى.. مكنتش عارف إيه السبب.. قال لى اطلع من الأرض يا كمال.. ملكش أرض هنا لا أنت ولا جدك.. طلعت مطواة من جيبى.. وضربته فى جنبه رجع خطوتين للوراء.. وجيت ماسك البندقية.. وإديته 9 طلقات.. واطمّنت أنه مات.. جريت على البيت.. قلت لـجدى.. خد أمى وأختى.. وامشوا.. خربت خالص.. عايزك تمشى.. خير يا ولدى.. قلت له مش خير.. المهم.. رحت سألت على الشخص التانى حسن طلب فى بيته.. قالوا لى «بيقلع بصل» فى الغيط.. رحت هناك.. ومن الغيظ إديته 24 طلقة وهربت من البلد رحت بلد جنبنا.. فضلت نايم فى الزراعات حوالى 14 يوم.. وبعدها نزلت اطمّنت على أمى وجدى وأختى وعرفت أنهم فى أمان.. وجدى يومها «مرس» لى دراعى.. يعنى مشّى إيديه على دراعى.. ودى معناها بالصعيدى عندنا تسلم إيديك يا ولدى.. جدع.. وعقبال ما تجيب تار أبوك».. حامد كان يستاهل القتل.. وقتل عمى وقلنا نعدّيها لكن افترى على جدى وعليّا.. وكان لازم يموت هو وحسن طلب.

أول تأبيدة في حياتي

تركت جدى.. ورحت سلّمت نفسى للنيابة.. بصراحة مارضتش أروح أسلّم نفسى للمركز.. المركز قبل كده ظلمنى ساعة قتل أبويا.. واعتقلونى.. المهم.. بسرعة رُحت لحامد بيه توفيق.. كان هو وكيل النيابة.. وحكيت له على اللى حصل بالتفصيل.. مكنش فيه كلمة كدب أبداً.. واتحبست عاد من ساعتها.. ده كان سنة 73.. يعنى فى أولها كده.. ودخلت السجن العمومى فى سوهاج.. واتحاكمت فى قضية الشروع فى القتل الخاصة بابن قاتل أبويا.. اللى ضربناه أنا وعمى وقعد فى المستشفى فترة وما مات.. المهم القاضى صدمنى.. وإدانى أول تأبيدة فى حياتى.. يا جدعان دى شروع فى قتل.. مش قتل.. وبعد كده ده تار.. وأبويا ميت.. وعمى ميت.. واتأيّد الحكم.. تخيل 25 سنة فى قضية شروع فى قتل.. وسكت.. وتعرف اتحكم عليّا بكام فى قضيتين القتل بـ«15 سنة» على الاتنين.. أيوه قتلت اتنين بـ 15 سنة سجن.. وما عرفت أقتل واحد أخدت 25 سنة.. حاولت أفهم ماعرفتش.. بس اللى أنا فاكره إن القاضى فى قضية قتل 2.. ماكانش مصدق إنى قتلت.. خاصة أن المسافة بين مكانى القتيلين كانت حوالى 3 كيلو.. يعنى لو معايا طيارة.. مكنتش هالحق أقتل 2 ساعتها.. عشان كده أخدت 15 سنة بس.. يبقى كده جملة الأحكام اللى عليّا 40 سنة.. فضلت أتنقل ما بين سجن وسجن وأنا بادعى وأقول لأمى تدعى إنى أروح سجن طرة.. عارف إن اللى قتلوا أبويا هناك.. واحد منهم اسمه «عبدالرشيد».. ويريد ربنا إنى فى أول سنة 1975 أتنقل على سجن طرة.. وهناك ألاقى عبدالرشيد.

{left_qoute_1}

قتل فى صلاة الجمعة داخل مسجد السجن

المهم دخلت طرة.. وتأكدت أن «عبدالرشيد» هناك.. طيب عايز أوصل له.. إزاى.. لقيت حد برضه من بلدنا مسجون هناك.. قلت له.. النفوس صفيت.. وأنا عمى اتقتل وأبويا مات.. وقتلت 2 من قرايبى وعايز أفتح صفحة جديدة مع خصومى.. مش ناقص بلاوى.. أنا كنت عايز أعرف منه الطريق بس.. أعرف منه المكان أو العنبر اللى فيه «خصمى».. رحنا هناك.. وحكيت لهم إنى خلاص مش هاخد تار.. وتُبت.. والموضوع انتهى وإحنا إخوات وكل واحد يقضّى العقوبة ويطلع من السجن يشوف حياته.. المهم أنا دخلت طرة يوم الأحد.. واللقاء ده كان يوم اتنين وأكلنا «بلح» مع بعض علشان يبقى فيه عشرة.. ويوم الجمعة.. قلت لازم أخلص.. جبت سكين.. أخدتها من سجين اسمه جلال ودفعت له 12 علبة سجائر.. واستغليت أنه مسموح لنا نروح نصلى كلنا فى الجامع بتاع السجن.. وقبل ختام الصلاة بشوية.. وقفت بره الجامع.. والسكين فى إيدى بس مش ظاهرة.. وأول ما شفت «عبدالرشيد».. نزلت فيه طعنات.. كنت أضرب فى مقتل.. فى رقبته وصدره.. إديت له حوالى 9 طعنات وقطعت رأسه من ورا.. لحد ما خلص فى إيدى..

وتأكدت أنه مات.. وشبع موت.. وتسألنى طب والمساجين اللى كانوا بيصلوا.. أقسم بالله كانوا بيتفرجوا علىَّ كأنى فى سيرك.. المهم ليه أنا كان لازم أتأكد أنه مات.. لأن العيلة دى بـ«7 أرواح».. وأنا حاولت أقتل أخوه وقعد 60 يوم وأكتر فى المستشفى وخرج منها وخدت مؤبد.. خفت أن ده ما يموت فى إيدى وآخد مؤبد تانى.. أنا قلت يموت وإن شاء الله آخد إعدام.. المهم العساكر والضباط وصلوا.. واتحطيت فى التأديب.. وضرب ليل نهار.. وكل ملابسى اتقطعت من الضرب.. والكلام ده أنا فاكره كويس.. كنا فى 1 يناير سنة 75.. ودخّلونى يومها على وكيل مصلحة السجون.. ربنا يرحمه لو كان مات.. أو يكرمه لو عايش.. ده إنسان بمعنى الكلمة.. كان برتبة لواء.. وكان شهرته «حميدو» بيه.. ماسك شئون المساجين.. أول ما شافنى «متكسر».. مفيش حتة سليمة فى جسمى.. قعد يصرخ فى الضباط والعساكر ويقول مين عمل كده.. وليه.. هات له هدوم جديدة.. العسكرى قال.. المخزن مقفول.. صرخ فيه.. اكسر الباب.. وهات هدوم..

يحكى «عم كمال» وكأن الحدث كان صباح اليوم.. فاجأنى اللواء «حميدو» بتصرف غريب. كان لابس بالطو أسود.. قلعه.. ولبّسونى.. وقال لى إهدى.. إهدى يا كمال.. تاكل.. انت كده خدت تار أبوك.. ورفعت راسك وسط قرايبك.. وإحنا هناخد حقنا بالقانون.. شرحت له إنى قاعد من سنين مستنى اللحظة دى.. وأنا جدى مات واتعمى.. وعمى اتقتل.. وقتلت 2 من قرايبى بسبب «المعايرة بالتار والطمع».. سكت.. بعدما عمل معايا الواجب.. وبعدين.. اتحولت القضية دى برضه للمحكمة.. وأخدت فيها تأبيدة.. بس التأبيدة دى كانت أهم تأبيدة وعلى قلبى زى العسل لأنها كانت بـ«كرامة» ورجّعت لى حقى كاملاً.. وقتلت اللى قتل أبويا.

الترحيل

بعد الحادثة دى.. وأخدت التار.. نقلونى أبوزعبل. تعرف.. فجأة كده.. لقيت جيش عساكر وضباط بيحاصروا الزنزانة.. أقسم بالله.. ما لحقت ألبس هدومى.. خير يا بيه.. فيه إيه.. ماحدش رد.. وخدونى فى عربية وسلمونى على هناك.. كانت مشكلتى أمى.. دى شقيت كتير.. وتعبت كتير.. كان لازم أبلّغها.. وأعرّفها بمكانى.طبعاً.. مفيش أى مكالمات.. ولا تليفونات أرضية ولا محمولة.. المهم عرفت وأنا فى أبوزعبل أن فيه عسكرى من سوهاج.. ولقيت واحد بيعرف يقرا ويكتب.. وقلت له عايز أكتب جواب.. وقعدت جنبه.. وملخص القصة إنى قلت لأمى.. إنى اتنقلت من طرة وأنا حالياً فى سجن أبوزعبل.. وأنا والحمد لله خدت تار أبويا.. وإنك ترفعى راسك فى البلد كلها وما تعيشى مكسورة.. وأنا مستنيكى فى أبوزعبل بزيارة.. سلمت الجواب للعسكرى.. الناس زمان كانت رجالة قوى. يعنى ممكن ما ينام لحد ما يوصل الجواب لأهل البيت.. ويسأل عن البلد وكبيرها.. ويقول لهم ولدكم كويس.. وباعت لكم الجواب ده.. والمهم أمى جات لى وكانت فرحانة.. وحلّفتنى ما أقتل حد ولا أعمل مشاكل تانى.. قالت لى.. يا ولدى.. كفاية يا وليدى.. إنت وحيدى وبعدين يعدموك.. وكده تمام.. خدت تار أبوك وراسنا اترفعت.. كفاية يا كمال.. ووعدتها إنى خلاص.. كنت بأعشق أمى.. وأحب تراب رجليها.. وعشان كده خدت قرار بينى وبين نفسى إنى ما أعمل شىء.. أنا فاكر لما دخلت السجن كان كيلو اللحمة ب 35 قرش فى الريف عندنا.. وكانت كل زيارة تجيب لى كيلو واتنين وأكل كتير.. ناكل أنا وزمايلى.. ونفرح.. وأكتر مرة أفرح فيها.. لما كنت أقعد آكل معاها لوحدينا.. كنت باحس إنى مسكت الدينا بإيدى.

سنوات «الحب»

وصلت لسجن «أبوزعبل» وبعت «جواب» لأمى مع عسكرى.. وبعد أسبوعين بالضبط لقيتها قدامى.. جاية من مسافة حوالى 700 كيلو ومعاها فلوس وأكل.. والحقيقة أن أكتر واحد تعب معايا هو أمى.. يعنى والله دى لفّت ورايا كل سجون مصر.. جت ورايا سجن بنى سويف وسجن سوهاج والمنيا وأسيوط والوادى الجديد ووادى النطرون وطرة وأبوزعبل.. مفيش مرة غابت.. وكل مرة تفرّحنى.. تعرف دى كانت توطى «تبوس يدى» وأنا الراجل اللى قتلت 3 وحاولت أقتل 2 تانى.. أبكى زى الطفل.. أقول لها: «يا امه ليه تبوسى يدى.. أنا اللى أوطى أبوس إيدك ورجلك.. أنا اللى تعبتك وخليتك رايحة جاية ورايا فى كل حتة..».. تقول لى: «يطوّل لى فى عمرك يا ولدى.. أنت لا فرحت بدنيتك.. ولا اتجوزت ولا فيه مَرَة تدفدف عليك وتراعيك واتخطفت بدرى.. أنا اللى آجى لك يا عمرى.. مش أنت ولدى الوحيد.. وانت راجلى بعد أبوك ما مات.. أنت ضهرى وسندى وهأفضل آجى لك لحد ما الأجل ييجى».. كانت قعداتنا مش كتير.. كان «يفرقها» أمر السجان.. بكلمة مشهورة «الزيارة انتهت».. كان يصعب عليّا أمى أنها تقوم بسرعة وتلم حاجتها.. وتمشى.. كنت بافرح ساعة ولا اتنين.. بس قلبى واكلنى عليها.. إزاى دى هتسافر كل المسافة دى.. وأحياناً كنت باطمّن لما يكون حد من ولاد أختى معاها وده حصل متأخر.. كانت هى عجّزت وكبرت وبرضه بتيجى.. بنفس الحماس وبنفس الزيارة.

والوضع استمر كده.. لحد سنة 2006.. أمى أصلاً مواليد سنة 23 وممكن تكون بعد كده بس هم كتبوها فى البطاقة أنها مواليد 1923.. المهم آخر زيارة ليها كانت فى أبريل 2006.. وبعد كده الزيارة طوّلت.. وامى ماظهرتش.. قلت ممكن يكون فيه ظروف.. ممكن يكون الأمر عادى.. فى الوقت ده كان بييجى يزورنى واحد وشه فقرى - يعنى نحس - قريبى أو بلدياتى.. اسمه منصور.. وكان منصور بيجيب أخبار كده وحشة.. كان حد مسلّطه عليّا.. وكان بيفرح وهو ينقل لى الأخبار دى.. معرفش كيف كان البنى آدم ده.. المهم جه مرة وقال لى يا «كمال».. أمك مش هتزورك تانى.. أمك ماتت.. كنت هاموت.. ماكنتش مصدق.. قلت الواد منصور اتجن ولّا بيلعب بيّا.. هزّيته.. قال لى والله ماتت فى شهر 6.. تعبت شوية.. وجت لها جلطة.. استحملت كتير.. يومها الدنيا اسودّت فى وشى.. وكنت عايز أخبط راسى فى الحيطان عشان أخلص.. افتكرت أن منصور ده هو اللى قال لى إن ابن عمى «شحات» مات.. قالها ببرود.. وشحات ده كان راجل بمعنى الكلمة.. أبوه سابه عمره 40 يوم.. ابوه عمى» «نور» اللى اتقتل قدام عينى وأنا أخدت تاره.. فـ«شحات» كان شايل لى ده.. وكان بييجى لى باستمرار كل شهر.. كان واد حلو كده.. ولما وصل سنه 25 سنة مات فجأة.. معرفش إيه اللى أصابه.. ماصدقتش.. وقلت للمأمور: «عايز أعمل تليفون للبلد.. عندى حالة وفاة».. طلبت وردت مرات عمى وقالت لى «شد حيلك يا كمال.. شحات مات».. كان تفكيرى يعود إلى 25 سنة مضت.. ويقود إلى أن من مات.. يبقى اتقتل.. وسألتها: «مين قتله».. قالت لى: «يا ولدى.. موت طبيعى.. محدش قتله.. ومفيش دم دلوقتى.. الناس اتغيرت والبلد اتغيرت.. أنت اللى لسة عايش فى توب قديم».. قفلت السكة وبكيت.. وعملت عزاء فى سجن طرة حوالى 10 أيام متواصلين.. ويومها جبت شيخ من أسيوط.. كان صوته حلو.. ويقرا والناس تسمع ومبسوطة وكأننا فعلاً فى بلدنا والناس بتعزينى.. بموت شحات زمان.. وبعده موت أمى اتكسرت وجالى ضغط وسكر.

مشنقة فى الزنزانة

الدنيا ضلّمت فى وشى بعد ما جالى خبر وفاة أمى.. قفلت عليّا باب الزنزانة.. أفتكر يومها كنت وحدى فى تأديب أو انفرادى.. المهم ربطت هدوم على هيئة حبل.. وربطته فى شباك الزنزانة كويس.. وجبت «جردل».. وحطيت فوق الجردل مخدتين.. ولفيت الحبل حول رقبتى.. وطلعت فوق الجردل والمخدتين.. خلاص أنا عايز إيه تانى من الدنيا.. أبويا اتقتل وخدت تاره.. وعمى اتقتل وخدت تاره.. وجدى مات.. وأمى ماتت.. وكل اللى أعرفهم ماتوا.. حتى الأمل (الواد شحات) اللى كنت بعامله زى ولدى مات.. المهم فجأة كده لقيت الباب بيخبّط.. ولقيت عسكرى سهران بيقول يا عم كمال.. عايز عودين كبريت.. وبص لقى المشنقة.. وقال لى ليه يا عم كمال.. استهدى بالله.. أنت راجل كبير وصبرت كتير.. استحمل شوية.. ونادى على مسجون كان غالى عليّا.. وقال له شوف «كمال» هيموّت نفسه.. المسجون ده زعق فيّا جامد.. وقال لى فيه إيه.. كل اللى نعرفهم ماتوا.. واللى عايش منهم هيموت.. أمنا ماتت.. وأبونا مات.. انشف يا «كمال».. بلاش التفكير ده آدينا مصبّرين بعض.. لحد ما السنين بتاعتنا تعدّى ونطلع من هنا.. استغفرت ربنا.. وماكنتش باصلى.. كنت كل ما أصلى وأركع أنسى.. وأسأل نفسى أنا ركعت مرة ولا اتنين ولا تلاتة.. وبطّلت.. لكن وعدت ربنا إنى هاصلى من أول ما خرجت.. وهاروح الجامع.. وبالنسبة للقتل أنا اتعاقبت فى الدنيا.. وأطلب من ربنا السماح فى الآخرة وهو غفور رحيم.. وهو أكتر واحد حاسس بعباده وشافنى وأنا مرمى فى السجن حوالى 46 سنة كاملين.. وأنا عشمان فى كرم ربنا وحنّيته.

محسن بيه أبوالوفا

سألت «كمال» عن فترة يناير.. وكيف فتحت أبواب السجون الحصينة.. ولماذا لم يهرب مثل آلاف غيره هربوا.. واندمج بعضهم وتاه وسط الزحام.. وضبطت الشرطة الغالبية عقب استعادة عافيتها وأعادتهم للسجون.. رد الرجل بعفوية.. وتفتكر أنا لقيت فرصة أهرب وما هربتش.. إحنا وقت الثورة دى كان حظنا وحش شويتين.. كل اللى كان فى وادى النطرون طلع.. واللى فى المرج.. وفى القطا وأبوزعبل والفيوم.. وناس منهم اتقتلت وفيه ناس فتحوا لهم.. عرفت أن ناس من برّة مصر.. جت سجن وادى النطرون ده تحديداً وفتحته.. بس إحنا كنا هنا فى طرة.. وطرة شديد.. وأسواره عالية ووسط مساكن.. وجنب الشرطة والجيش مش فى «الصحراء».. وماكنش حد يقدر يدخل ولا يطلع ولا يهد طوبة واحدة من السجن ده.. آه لو جت لى الفرصة إنى أهرب أيام الثورة كنت هربت.. وقتها كنت داخل على 40 سنة جوه السجن.. ومين اللى تيجى له الفرصة ويقعد بعد 40 يوم مش 40 سنة.. ده أنت «مذلول» جوه السجن.. تعرف لما كنا نطلع فسحة فى السجن اللى بيسموه ترويض.. كنت قبل الميعاد بتاع صفارة السجان أدخل على الزنزانة.. كرامتى ماتسمحش أن السجان يقول لى: «يالا يا كمال على زنزانتك أو عنبرك».. بالنسبة لى كان ده عيب.. كنا وسط الهوا والطل بنبص حوالينا فى العمارات ندوّر على وش بنى آدم مش لابس أزرق زى المساجين اللى حوالينا.. وكنا بنفرح.. ولما كنا بنسمع الصفارة.. كان وزنى يخس النص من الزعل.. هاترمى تانى وسط 4 حيطان.. تخيل ده بيحصل على مدار 46 سنة كاملين.. نرجع للهروب.. أنا فى مرة وأنا فى سجن قنا العمومى.. جات لى فرصة أهرب برّة السجن.. وفعلاً كانت الزنزانة بتاعتى قريبة من السور.. وأيامها كانوا بيعملوا تشطيبات أو بيبنوا أسوار جديدة أو بيعلّوا فى الأسوار.. وكان فيه خشب عريض.. خشب السقالات اللى بيستخدموه «مشايات» ساعة البناء.. المهم جبت خشبتين ووصلتهم من شباك الزنزانة عندى على سور السجن.. واتحركت.. كنا بالليل.. يادوب 5 متر بالضبط وكنت على السور.. وفى اللحظة دى مفيش حد شايفنى ولا برج مراقبة ولا ضباط ولا عساكر.. بس افتكرت ضابط دكر اسمه محسن أبوالوفا.. كان برتبة مقدم شرطة ساعتها وماسك مباحث سجن قنا.. وقلت لنفسى: «فيه ايه يا كمال.. هتهرب.. وتخون محسن بيه.. ده الراجل وسط المساجين كلها بينادى عليك من دون الناس.. ويحط يده على كتفك ويسألك.. فيه حاجة نقصاك يا كمال.. حد مزعّلك.. معاك سجاير ولا تاخد».. افتكرت ده كله وقلت مش أنا اللى أخون راجل جدع زى محسن.. ومش أنا اللى أحرجه مع القيادات.. ورجعت تانى على الزنزانة.. وشلت الخشب ورميته.. ومحسن ده من دشنا فى قنا.. وأظن لسة فى الخدمة وأنا نفسى أشوفه.. أصل أنا دمى حامى وما بحبش الخيانة.. وأحب أتعامل مع الرجالة ومحسن أبوالوفا راجل جدع.

هتخرج يا كمال.. مبروووك

مرات كتير أتعلق بأمل الإفراج.. مرة تتوه الأوراق.. ومرة يقبل الإفراج الصحى ويضيع القرار بسبب «دربكة» الأحداث فى 2011.. أختى صفية كانت هى السند بعد أمى.. وبعتت استغاثات كتير وجوابات كتير لمسئولين فى السجون.. أفتكر الله يمسيه بالخير لواء عاطف شريف.. وعدنى أنه هيمشينى لأن أوراقى سليمة.. بس جات الثورة وهو مشى.. وبعده أفتكر عاطف نجيب.. وحصل نفس الكلام.. إحنا فى السجن كنا ضيوف.. ليك واجبات وعليك حقوق.. وتخالف هتزعل وتتبهدل.. المهم كنت شبه فقدت الأمل فى قصة الخروج.. أنا لسة المفروض أخرج بعد 20 سنة.. بس يا ترى أنا أصلاً هاعيش 20 سنة تانى.. من أسبوعين بالضبط لقيت العسكرى جاى وبيقول لى: «تعالى يا عم كمال البيه المأمور عايزك.. قلت يا ساتر يا رب.. حد مات ولا فيه نقل جديد.. ولا فيه مصيبة أنا عملتها وأنا ناسى».. المهم مأمور سجن المنيا ده والله من فرحتى ولخبطة الأيام معايا نسيت اسمه.. بس هو من الفيوم.. ده أنا حافظ أسماء ييجى 20 مأمور و20 رئيس مباحث اتعاملت معاهم.. المهم وصلت له المكتب وقال لى: «مبروووك يا كمال.. أنت هتخرج.. اسمك جه فى العفو الرئاسى..».. ملقتش رد.. سكت وقلت لنفسى: «ده ملعوب جديد ولا إيه.. نفس القصة ونفس الجملة سمعتهم قبل كده».. الراجل لقانى ساكت.. قال.. مالك.. بصيت فى وشوش الضباط حواليه لقيتهم بيضحكوا وفرحانين.. اطمّنت شوية.. وقلت لنفسى واضح أن الكلام صح.. قلت له يا أفندم الحمد لله وألف شكر.. قال لى طب روح اتغدى فى المطعم وكل اللى أنت عايزه.. ورحت فعلاً لقيت أكل مختلف وزيادة عن كل مرة.. بس ماقدرتش آكل خالص.. وخليت 3 مساجين ياكلوا الأكل وقلت للعسكرى يبلّغ المأمور إنى كلت والدنيا تمام.. ويومها شربت شاى وسيجارة.. وقلت معقول الكلام صح.. هاطلع وأشوف الناس تانى.. وأشوف البشر.. وألحق أعيش لى يومين.. قلت كمان «جدعة يا صفية».. صفية أختى اللى بعتت للرئيس عبدالفتاح السيسى.. وواضح أن الشكوى المرة دى جابت نتيجة.. وأنا أمنية حياتى دلوقتى أقابل الراجل ده.. وأقول له شكراً.. بس هيرضى يقابل مسجون؟

أيام «المر والندم»

قبل أن أنهى حوارى مع «كمال».. سألته كيف تقيّم تلك السنين التى ضاعت.. هل لو عاد بك الزمن كان الطريق سيتغير.. قال الرجل: «أنا فى الـ46 سنة ما شفت يوم حلو.. مفيش غير يوم ما أخدت تار أبويا وأنا جوه سجن طرة.. كل الأيام بعد كده مُرّة.. وكلها ندمان عليها.. ندمت إنى ما تعلمت زى عمى راجى وده مهندس.. ندمت إنى كنت وحيد وده مش بإيدى.. ندمت إن عيلتى اتحطت فى الظروف دى.. وعم أبويا اتقتل.. وأبويا اتقتل وعمى اتقتل.. والكرامة والعار يخلوك فى وش المدفع.. يخلوك تغير صوابك.. وتمشى فى طريق غلط ومعووج.. كدّاب لو قلت لك إن عمرى كله ما ضاعش جوه السجن.. أنا داخل على 67 سنة.. وخلاص معدش باقى كتير فى العمر.. عايز أعيش فى هدوء.. عايز أستقر شوية.. تخيل نهر النيل ده أنا ما لمسته من سنة 70.. آه كنت باشوفه وأنا راكب عربية باتنقل من سجن لسجن.. كنت بأشوفه من خلف شباك سلك صغير.. كنت بأفرح لما أشوف وشوش بشر ماشية فى الشارع وأقول يا بختهم.. محتاج هدوء فى سنواتى اللى جاية.. محتاج أعيش بعيد عن الصراع والدم.. عايز أبنى «طوبة» جديدة فى بيت أبويا.. بيت أبويا اللى «خرب» واتهجر واتهد من سنة 72.. مهدود.. عايز أعمّر البيت من جديد.. ويرجع ينوّر زى ما كان.. وكل الناس تقول ده بيت كمال.. «كمال» ولد ثابت عبدالمجيد عبدالسيد ناصر.. «كمال» اللى جده دياب.. مؤسس الديابات فى أخميم.. «كمال» اللى عاش 46 سنة فى السجن.. «كمال» اللى غالبية أهله ماتوا وهو فى السجن.. «كمال» اللى اتجوز وعمره 67 سنة.. نفسى يكون عندى واد صغير ولا اتنين يشيلوا اسمى.. وعايز أختار واحدة أبوها دمه حامى عشان تعرف تربى العيال لما أموت.. طبيعى إنى أموت.

 


مواضيع متعلقة