"عرق البلح".. وانكشف رعب الشمس

كتب: محمد أسامة رمضان

"عرق البلح".. وانكشف رعب الشمس

"عرق البلح".. وانكشف رعب الشمس

صحراء قاحلة وشاب أسمر "عبدالله محمود" يظهر من العدم يجري وخلفه جبل كأنه أحد المطاريد الذين سأموا من حياة الجبل فهربوا منه وعبروا الصحراء للعمار والخضرة.

كانت هذه هي افتتاحية فيلم "عرق البلح" الذي أنتج عام 1998 للمخرج العبقري رضوان الكاشف الذي حصل على ذهبيتين بمهرجانين مختلفين، فعندما عاد الشاب الغريب إلى النجع باحثا عن ماضيه؛ يدفع بابه بكل ما أوتي من قوة ويجري بين دروبه الموحشة باحثا عن أي نور ولا مجيب.. ينادي بلغة فصيحة ليشعرك أن ما تراه ليس إلا مقدمة كتاب لم تبدأ فصوله بعد.

غلبت الرمزية على الفيلم فلم يظهر "الكاشف" ما أراده أمام المشاهد مباشرة بل كان يضع له ألف طريق ويجعله يختار أيهم يسلك؛ فنجد الجدة تسأل الشاب "ألم يرد ذكري في حكايات أبيك؟"، فيرد الشاب "كان أبي يأخذني بين ذراعيه المخدلتين من الشراب ويروي لي ألف ألف حكاية"، فيظهر لك في جوابه كيف كان يعري الشراب رأس أبيه ويعيده إلى ماضيه.

نزول الغرباء إلى القرية والصوت الغريب والهودج الذي يعلوه ما يشبه "الإيريال" وكأنه لتلفاز كبير؛ محروس بحرس غرباء مغطاة وجوههم ويلبسون زيا غريبا وكأن "الكاشف" بذلك يقول للمشاهد اعتبر الحراس هم كل ما يأخذك من أهلك أو يبعدك عنهم، يأتي الصوت الغريب ينادي "سيد" ويذكره بابنه "حسان"، و"سالم" ورغبته  في أن يشتري كردان لزوجته "شفى"، و"سلمان" وابنه المقبل و"محمد إسماعيل" وزواج "سلمى" ابنته، فلم تكن الأصوات إلا أصوات رغباتهم في الحصول على المال والظفر بأحلامهم.

يطلب الصوت في مقابل تحقيق الأحلام ثلاثة أشياء "سكوت – عمى – نسيان" وكأنها صفات عبيد فهو يضع لهم ما يلجمهم، وأظهر الفيلم كيف كان رفض الرجال وتجهمهم في البداية إلى أن جاء التشجيع من النساء ورغبتهم في الظفر بالمال والحرير والذهب.

وتظهر عبقرية الكاشف في تصوير كيف أن الغريب جاء ليسلب المكان رجولته بسلب رجاله؛ ويعاون الغريب ذو اللهجة الغريبة رجل يتحدث بلهجة أهل النجع وينادي على أسماء الرجال وكأن ما من ظلم يقع على مكان إلا بمساعدة من أهله أو جيرانه.

ثم ينادى على أحمد مصطفى الذي لم يكن موجودا بالنجع حينها فيقول الغريب "هتلاقوه عند النخلة العالية" فيخبرك الكاشف بشكل غير مباشر كيف أن عدوك ومصدر ألمك يعرف عنك كل شيء، وحتى عن مكان تسليتك؛ فيأتون به ويرفض الذهاب معهم.

وضع الكاشف في أحمد مصطفى الذي جسده "محمد نجاتي" شباب النجع وأمله الذي يرفض ترك مكانه رغبة منه في مرافقة جده.

وحتى عندما أراد الغرباء ضربه لم يقف لهم إلا "سلمى" التي جسدت دورها شريهان وحملت فأسا وبعض الصغار من خلفها وكأن الكاشف يقصد بذلك أن الأمل لا يدافع عنه إلا حب المرأة وأحلام الصغار.

برفض أحمد السفر يبتسم الجد الصامت "حمدي أحمد" الذي يجسد التاريخ واستكانته، التاريخ المشلول الممنوع من الحركة الذي لا يستطيع أن يصرخ ليذكر صغاره بزمانهم الغابر ويحزن بعد أن ركب الأعمام السيارة.

 

يعود أحمد للقرية فتخبره إحداهن متهكمة أنه قد أصبح رجل النجع فيضحكن من خلفها وهنا يسلط المخرج الضوء على نقطة غاية في الأهمية وهي النظرة للشباب وكيف نستهين بهم.

تتساءل سلمى بعد أن قرأ أحمد لها خطاب أبيها أسئلة تنم عن كبر سنها من الهم رغم مرور ستة أشهر فقط على السفر، فيظهر لك ذلك كيف هو وعي الشباب الذي لايؤخذ به.

وفي مشهد يجلس فيه أحمد يحكي للصغار حكاية من حكايات الجد يقف أحد الأطفال مقاطعا "زهقنا من حكايات الجد إحكيلنا عن البلاد اللي سافر ليها أبهاتنا" فيظهر هنا الحنين لآبائهم والعزوف عن تاريخ جدهم ويدل على تسلل الرغبة لنفوس الصغار بمعرفة أراضٍ أخرى غير أرض النجع.

تلد زوجة أحد الأعمام فيقرر النسوة ختان جميع أولاد النجع في يوم واحد ويجتمعن لخياطة ثوب جديد كثياب الرجال لأحمد، تساعده كل امرأة على ارتدائه كأنه ارتداء رجالهم لملابسهم فهم بذلك يستمدون من رجولته الصغيرة ما يحمي أنوثتهم.

يظهر الفيلم كيف تكون النظرة الدونية للمرأة فعندما يدخل أحمد على "السبس" وفرقته ويطلب منه أن يأتي لنجع العالية يرفض قائلا "عيبه في حقنا إنه يتقال إن طبل السبس ومزماره دق في نجع الحريم"؛ وليس امتهانا من كرامة المرأة فقط بل وإهانة لرجولة شاب وجد فيه الزمار أنه لم يبلغ مبلغ الرجال بعد فهو إهانة للشباب والأمل.

ترتدي نساء النجع الزي الصعيدي ويأتين بالسبس وفرقته يتخلين عن زينتهن ويصرن كالرجال بعد غياب الرجال فهنا يظهر معدن المرأة وكيف يمكنها التحول لرجل من أجل صون كرامتها وكرامة أهلها.

تغني سلمى "شيريهان" للبلح وترقص والنساء حولها، وهنا تظهر عين الكاشف عندما يرقص الجميع بملاءات سوداء وسلمى فقط ترقص بملاءة سوداء داخلها ملاءة بيضاء؛ وكأنه أراد بذلك أن يقول إنها الوحيدة التي لم يلوث داخلها وما زالت نقية القلب وعلى حالها.

تعلو "شفى" الرغبة وترقص أمام الطبال متناسية عادات الصعيد التي بدأت في الاختفاء منذ أن غادر الرجال النجع فيفرق بينهما نبوت الجدة "زاد الخير" في زي الرجال وكأن آخر قيمة من رجوله ما زالت تحفظها آخر امرأة.

تنوح المرأة أمام الجد العاجز في مشهد وصول خبر قتل سلمان لكفيله، يظهر الجد رافعا رأسه في شموخ وعزة بسلو الرجال والهم في عينيه لعجزه عن فعل شيء؛ وحسرته على مقعدة كجلسة المتفرجين كالتاريخ.

يرهق غياب الرجال أجساد النساء وتحرقهن الرغبة؛ وهنا يظهر المخرج وجها آخر من الغربة وكيف تعيش المرأة وحدتها بعيدا عن رجلها وحينها يكون أمامها أمرين إما الزنا أو عدم الرغبة في الجنس.

يصعد أحمد النخلة العالية وتتعلق النسوة به وكأنه الأمل فيجري بيده الخير وتسقط النخلة الرطب.. وهنا مشهد ضمني أن القوة والخير بيد الشباب لا العجزة.

ويشكل مشهد وفاة الجد رمزية كبيرة فهو لم يمت كغيره بل ركب حصانه وخرج من النجع وكأنه سئم مما حل ببيته ودياره، وكأن الكاشف أراد ألا يميت التاريخ الميتة المعروفة بل ترك له مجالا للغياب فلعله يأتي مرة أخرى ببندقيته ليعيد الأمور إلى نصابها.

وعندما عاد الأعمام محملين بقيمهم الجديدة متناسين أصلهم رأوا في الشاب الذي حمى النجع في غيابهم لمسته ووجوده في كل مكان بالنجع فألصقوا به خيباتهم وقرروا قتله بل كانت رمزية قتلة هي الأفضل بلا منازع فلم يقتلوه بشكل عادي بل جعلوه يصعد "العالية" رمز نجعهم وقيمته وقطعوها به وكأنهم قتلوا تاريخهم ومستقبلهم بضربة واحده.

ثم يضهر الجد في نهاية الفيلم ساحبا حصانه وعليه حفيده وكأنه يأخذ ما تبقى منه في هذه البلاد بلا رجعة؛ ثم "تسقط النخلات ويظهر رعب الشمس".


مواضيع متعلقة