سرقة أغطية البلاعات.. فيلم «السقوط» مستمر

كتب: محمد صلاح الهوارى

سرقة أغطية البلاعات.. فيلم «السقوط» مستمر

سرقة أغطية البلاعات.. فيلم «السقوط» مستمر

«سقوط مميت» يُهدّد أرواح مئات من المواطنين فى حوادث ضجّت بها محافظات مصر، بسبب انتشار «بالوعات» الصرف الصحى المكشوفة، مما يُعرّض حياة الأطفال للخطر، فى ظل غياب المسئولين عن مواجهة هذه الكارثة التى تزداد بشكل مستمر، وعدم وجود عقوبة رادعة للحد من سرقتها، وفى نفس الوقت لا يوجد قانون يُلزم الأحياء بمتابعة مخازن الخردة على حد قولهم «ليسوا جهة اختصاص»، فعجزت «الأحياء» عن أن تتخذ قراراً بشأنها، وأصبحت تُهدّد خزائن شركة المياه والصرف الصحى من أغطية البالوعات، التى قُدّرت خسائرها بـ25 مليون جنيه سنوياً فى القاهرة فقط.

{long_qoute_1}

«الوطن» فتحت التحقيق فى ملف سرقة أغطية البالوعات، وخاضت مغامرة فى عالم تجار «الخردة»، بعد أن قتل 16 مواطناً فى بالوعات مكشوفة من شهر نوفمبر 2017 حتى أغسطس 2018 حسب ما نُشر فى الصحف، وكشفت تورّط سريحة الخردة فى السرقة، طمعاً فى جمع الأموال، لكن المفاجأة كانت بتورط كبار تجار «الخردة» لقيامهم بتكسير الأغطية بعد شرائها من (السريحة)، لبيعها إلى المسابك والحصول على نصف ثمنها 850 جنيهاً، فى حين يصل سعر تكلفة الغطاء الواحد من 3 إلى 4 آلاف جنيه.

{long_qoute_2}

بكفيه الصغيرتين اللتين تناسبان سنوات عمره الأربعة عشر، راح «مصطفى أحمد»، يحرك خيوط طائرته الورقية فى الفضاء، عيناه معلقتان فى الأعلى، حيث تتأرجح الطائرة أمامه، يجذب خيوطها يميناً ويساراً دون أن ينتبه إلى خطوات قدميه ليسقط فجأة فى إحدى البالوعات المفتوحة فى منطقة شبرا الخيمة، لتبتلعه فى جوفها ساعتين داخلها دون أن يبادر أحد بإسعافه -على حد قول والديه- بعد أن رفض فريق هيئة الإنقاذ بشركة المياه والصرف الصحى النزول خوفاً على أنفسهم، حسبما ذكرت أسرته، ليخرج الطفل فى النهاية جثة هامدة من محطة الصرف الرئيسية بمنطقة أبوالعلا ببهتيم، بمسافة تقدر بنحو 1٫5 كيلومتر مربع تقريباً.

شادية أحمد، 39 عاماً، والدة «مصطفى»، ضحية بلاعة شبرا، تبيع الخبز بشارع ترعة «الشابورى» بمنطقة شبرا، كان فقيدها رغم صغر سنه يساعدها فى تجارتها تارة ثم يساعد أباه، الذى أصيب بعاهة مستديمة منذ سنوات، فى بيع ألعاب الأطفال تارة أخرى، فعلى حد قول الأم، كان يذهب نجلها وحيداً لشراء البضاعة لمعرفته بالتجار الذين يتعاملون معهم. بنبرة حزن تتذكر شادية يوم الحادث: «خرج الساعة 8 الصبح من منزلنا فى مساكن الزهور، عشان يساعدنى فى البيع، فتركته وذهبت لتوصيل بعض الطلبات للزبائن فى المنازل، دائماً ما كنت أفعل ذلك».

تحذيرات «شادية» لنجلها كانت لا تنقطع لعلمها أن المنطقة غير آمنة، خاصة بعد سرقة أحد أغطية البالوعات بالشارع المجاور: «البلاعات اتسرقت، وأصحاب المحلات قدموا أكثر من شكوى للحى»، لافتة إلى أنه لم يتحرك ساكن داخل المسئولين، قبل أن تضيف: «الغطاء سرقه بائعو الخردة أو أحد المواطنين لبيعه لهم»، لم تكن «شادية» تعلم أن القدر سيكون فى انتظار نجلها حين عادت فى الساعة الحادية عشرة ظهراً، ورأته للمرة الأخيرة، قبل أن يذهب للعب بطائرته مع صديقه بشارع 15 مايو المجاور لفرش الخبز، دقائق قليلة وعاد صديق «مصطفى» لوالدته وحيداً، يقول: «الحقى مصطفى وقع فى البلاعة»، فتصرخ فى وجهه: «غور العب بعيد» ظناً منها أنه يمزح معها، ثوانى وهرول الجميع، فتساءلت: «حصل إيه؟»، فرد أحد المارة: «عيل وقع فى البلاعة»، نزلت الكلمة كالصاعقة على أذنيها، عندما تذكرت حديث صديقه، حتى أسرعت إلى شارع 15 مايو، أمام هايبر القدس، لتجد تجمعاً من الأهالى حول البالوعة المكشوفة: «كانت عاملة زى البحر.. كلها دوامات»، ورغم ذلك لم يظهر أى أثر لابنها، ولا تعلم ماذا حدث له، مرت دقائق قليلة حتى جاء مسئولو الحى وفرقة الإنقاذ بعد علمهم بما حدث، وكانت بصحبتهم عربة ربع نقل بداخلها غطاء صرف صحى، يريدون وضع غطاء قبل إخراج «مصطفى» لكن أحمد على، 47 عاماً، والده صاح بهم، بعد أن استطاع النزول من مسكنه بالدور الخامس، عندما أخبره أحد جيرانه بما حدث، فهرول إلى الشارع دون التفكير فى مرضه ورجله المبتورة، حتى استطاع الوصول لـ«البلاعة» فصدمته زوجته بما تقوله وهى جالسة على الأرض وتصرخ بصوت عال: «عوضى على الله، ياخسارة شبابك يا مصطفى.. مش لاقيين جثة ابنى». {left_qoute_1}

ساعتان والجميع يقفون مكتوفى الأيدى، وصرخات الأم لا تنقطع، فيما وقف غطاسو الصرف بجوارها يخشون النزول إلى ذلك العمق، خوفاً من الغرق، فبحسب تبريرهم: «عمقها كبير وصعب ننزل فيها»، دقت الواحدة ظهراً، ولم يحدث جديد، وبحسب ما قاله والده: «توجه المسئولون إلى سياراتهم بعد اتصال هاتفى من أحد مسئولى محطات الصرف الرئيسية ببهتيم، متحدثين لبعضهم بهدوء»، وبنبرة غضب بعد أن انهارت دموعه، يتابع: «لقيناه فى الشبكة الرئيسية فى صرف أبوالعلا فى بهتيم، والمسئولين رفضوا حد فينا يشوفه لما خرج».

مر على وفاة «مصطفى» 5 شهور ولا يزال عبدالرحمن شقيقه البالغ من العمر 11 عاماً، يتذكره كأنه الأمس، ولم يتبق له سوى ذكريات أخيه التى تلاحقه فى نومه، كأنه كابوس يحاول الإفاقة منه، يتذكره وهو جالس بجوار والدته، ويتحدث ضاحكاً وبمجرد أن يتحدث أحد عن شقيقه أمامه يصمت ولا يتفوه بكلمة: «كنت بحبه، عشان ماليش إخوات غيره، وأختى الكبيرة اتجوزت.. نفسى أشوفه».

«الوطن» فتحت التحقيق فى ملف سرقة «أغطية البالوعات»، وخاضت مغامرة فى عالم تجار «الخردة»، لتكشف عن مخالفات كبار التجار، وتورطهم فى تكسير الأغطية، لبيعها إلى مسابك صهر الحديد، بعد أن هددت أرواح المواطنين فى حوادث ضجت بها محافظات مصر، وزارت أحد المسابك التى تعيد تدوير الخردة مرة أخرى، حيث يتسلل بعض اللصوص إلى شوارع حددوها سابقاً، ليسرقوا أغطية البالوعات لبيعها إلى تجار الخردة الصغار أو «السريحة»، طمعاً فى الحصول على المال، فسرقة غطاء واحد تمنحهم 800 جنيه دون تعب، فيما تتكبد الدولة خسائر مالية فادحة، ولا توجد عقوبة رادعة للحد من تلك السرقات.

وأفاد تقرير، صادر عن الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف، أنه تمت سرقة 12 ألف غطاء بلاعة على مستوى الجمهورية فى 3 شهور فقط، حازت القاهرة على نصيب الأسد لتفقد 1787 بلاعة غطاءها، فيما جاءت الإسكندرية فى المرتبة الثانية وتلتها الجيزة، مشيراً إلى أن ما يقرب من 6 آلاف غطاء سنوياً تتم صناعتها لاستعاضة ما تتم سرقته فى القاهرة فقط، فى حين ارتفع سعر كيلو الزهر الرمادى إلى 18 جنيهاً، ويتكلف غطاء البلاعة الزهر الرمادى ما بين 3000 و4000 جنيه، وفقاً لأقطارها من (60 إلى80 سم)، ويتراوح وزن الأغطية من 200 إلى 300 كيلو بدون البرواز.

رحلة الأغطية من المخازن لـ«المسابك»

حديث الأم كان محركنا للبحث عن إجابة سؤال: «كيف يبيعونها وهى ممنوعة؟»، فى عالم تجارة الخردة، وتحديداً فى منطقة السبتية وبولاق أبوالعلا، الدخول ليس سهلاً، فيجب أن تصبح عاملاً بين باقى العمال حتى تتمكن من كشف عالمهم وكيف يتم التعامل مع تلك الأغطية المسروقة، استطعنا الوصول إلى أكبر تجار الخردة بالمنطقة «هـ. ف» و«ن. ا»، أمام مخزن «أ» تبدأ رحلة عمال اليومية بالمكان، بمجرد أن تطأ قدماك المخزن تجد على يسارك مكتباً مكوناً من غرفة على طابقين، تعرف بمكتب المعلم «د. ن»، الذى لم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، أمام الباب تجد ميزاناً متوسط الحجم، وبالقرب من سلم الغرفة العلوى ميزان آخر يكبر عنه بقليل، وبمنتصف المخزن يقف 6 عمال على عربة ربع نقل بها خردة ينقلونها لصندوق «الكرنك»، ليرفعها على عربة النقل الثقيل أمام المخزن، التى تذهب أكثر من مرة يومياً إلى مسابك صهر الحديد بالطريق الصحراوى.

فى جانب منزوٍ من المخزن يقف «م. م» 63 عاماً، ممسكاً ولاعة أوكسجين، يستخدمها بحرفية شديدة فى مهمة هى الأبرز والأهم بين باقى التخصصات فى المكان.. هنا تتوه معالم الأشياء وتتحول لقطع صغيرة.. هنا تتفتت أغطية البلاعة المسروقة أياً كان حجمها، ليتمكن كبار التجار من بيعها بسهولة إلى المسابك دون الوقوع تحت طائلة القانون، على آلة التقطيع النارية تقف كثير من الخردة فى انتظار دورها، من بينها عدد لا بأس به من مواسير الصرف الصحى، ينتهى بها الحال للتجميع فى بانيو قديم بعد إتمام عملية التقطيع.

{long_qoute_3}

ويقول «م. م» عامل التقطيع: «أنا لازم أقطع كل الغطيان والمواسير والخردة كبيرة الحجم، المسبك ممكن يعرضنا للمساءلة القانونية ودى أسهل طريقة لطمس معالم الغطيان أو أى حاجة عاوزين ندخلها المسبك»، ويتابع: «الغطيان دى أغلى من الحديد الصافى لأنها من نوع الحديد الزهر، وبنحاول نحط كل قطعة فى مكان متفرق علشان مانلفتش الانتباه وقت دخولها المسبك».

فى السادسة مساء جاء «ى. ص» 19 عاماً، سريح خردة، لأخذ أموال بضاعته، التى يأتى بها كل يومين إلى المخزن، وعند سؤاله عن كيفية الحصول على غطاء بالوعة، قال: «أى حد بيسرقها بيجيبها لينا واحنا بنتصرف ونكسرها علشان تعدى، هى حاجات مخالفة وناس كتير بتخاف تاخدها علشان اللى هيتمسك بيها هيتحاسب»، مشيراً إلى أن التجار الكبار الذين يستطيعون التصرف فى تلك الأشياء يستغلون الفرصة ويأخذونها بنصف الثمن فقط: «يعنى مثلاً فيه غطاء يعمل 285 كيلو يحسب له الكيلو بـ3 جنيه، يبقى الغطاء بـ855 جنيه، رغم أن كيلو الزهر بـ3.25 يعنى هيكون سعره فى حدود 926.5 جنيه، ده غير مكسب بتاع الخردة لأنه بيبيع بالطن وبيكون ليه مكسب تانى».

الأحياء ليست جهة اختصاص

وقال اللواء جمال الشبكشى، رئيس حى العجوزة، إن الحى ليس مسئولاً عن تفتيش مخازن الخردة، وإنما فى حالة ملاحظة عمل مخالف يتم التقدم ببلاغ رسمى للجهات المختصة، مشيراً إلى أنه تمت سرقة 8 أغطية بالوعات خلال شهر من منطقة قريبة من «المحور»، عن طريق وقوف أصحاب «التكاتك»، مدعين وجود عطل بالمركبة حتى يسحبوا الغطاء بسهولة وأخذه، لافتاً إلى أن سرقة أغطية البالوعات تطبق عليها عقوبة السارق، بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز سبع سنوات، طبقاً للمادة 317 من قانون العقوبات، لافتاً إلى أنه لا بد من توعية المواطنين، وعدم الخوف من الخارجين على القانون والتقدم على الفور فى حالة رؤية أى عمل مخالف.

«المسابك» ترصد المخالفات بـ«الصدف»

داخل أحد مصانع إعادة تدوير الحديد الشهيرة فى منطقة أبوزعبل تنتهى رحلة الغطاء المسروق ليخرج منه منتج آخر غير الذى كان، وتعتمد المسابك فى التعامل مع التجار على الثقة بينهما، على حسب قول المهندس راشد توكل، مدير عام شركة توكل للصناعات المعدنية بالقليوبية، ورئيس شعبة المسابك سابقاً، موضحاً أن المخالفات يتم رصدها بـ«الصدفة»، مضيفاً: «علشان بنعتمد على التعامل مع التجار بشكل ودى»، مشيراً إلى أن آخر مخالفة تم رصدها كانت منذ أكثر من 15 عاماً مضت.

وتجمع «المسابك» الخردة من الأسواق لصهرها داخل أفران كهربائية، ومن ثم تشكيلها فى صورة عروق حديدية لبيعها، معتمدة فى ذلك على 3 عناصر رئيسية لتشغيل العمال، أولها: نفايات المصانع، وثانيها: أدوات الصرف الصحى المتهالكة، وثالثها: الصفيح المستخدم فى معلبات الطعام، وتقوم معظم المسابك بإنتاج لوازم الصرف الصحى من مواسير، ووصلات للمياه والصرف من الحديد الزهر، وكذلك أغطية غرف التفتيش من الزهر المرن، وأجزاء الفرامل للسيارات أو للسكك الحديدية، وبعضها يقوم بإنتاج حديد التسليح، حسبما ذكر «راشد»، مشيراً إلى أن هناك حلاً بديلاً لمنع سرقة أغطية البالوعات عن طريق استخدام الأغطية المصنوعة من الزهر المرن، لكنها تكلف أضعاف الزهر الرمادى، حيث يصعب تكسيرها، فضلاً عن تزويدها بقفل ثابت متصل بـ«الشمبر»، ولا يوجد حل آخر بديل، على حد قوله. {left_qoute_2}

25 مليوناً خسائر فى محافظة القاهرة فقط

وحاولت «الوطن» التواصل مع المهندس عادل حسن زكى، مدير شركة الصرف الصحى للقاهرة، للتعليق على الظاهرة، إلا أنه تجاهل، ولكنه كان قد أدلى بتصريحات تليفزيونية مؤخراً، قال فيها: إن «السارق يعرض المرافق العامة للخطر، ويهدد حياة المواطنين، خاصة الأطفال لعدم قدرتهم على استيعاب خطورة السقوط فى تلك البالوعات»، موضحاً أنه لا بد من تعديل التشريع لأنه إهدار لمال الدولة، فضلاً عن الخطورة التى تمثلها السرقة، والمفترض تغليظ العقوبة من أجل القضاء عليها، بحيث لا تقتصر فقط على جريمة سرقة لأنها تعرض الكثير للموت، وتتسبب فى تلوث البيئة.

وأشار «زكى»، فى تصريحاته إلى أن «انتشار ظاهرة سرقة أغطية البالوعات أدى إلى خسارة الدولة 25 مليون جنيه سنوياً فى القاهرة فقط، وأن الشركة تكافح هذه الظاهرة عن طريق الاتجاه إلى الأغطية الخرسانية خاصة بالمناطق العشوائية لتقليل السرقة والتكلفة، لافتاً إلى أن أغلب السرقات موجودة بشكل كبير فى الأماكن المتطرفة، التى تم استخدام الغطاء البديل بها بنسبة 1500 غطاء شهرياً بديلاً عن الغطاء الزهر الذى تتم سرقته بشكل لافت، وأوضح مدير شركة الصرف الصحى بالقاهرة أن «هناك 52 مركز صيانة موزعة على أنحاء المحافظة، من أجل سرعة الاستجابة لشكاوى المواطنين»، موضحاً أن المركز الإعلامى يتعامل فوراً مع أى بلاغ أو شكوى، مضيفاً أن الشركة حصلت على فيديو لأحد السارقين أثناء سرقة غطاء بالوعة، ولم يستغرق إلا ثوانى معدودة، لافتاً إلى أنهم أصبحوا يستعينون بكاميرات المحلات لمعرفة الطرق التى يستخدمها المجرمون فى السرقة.


مواضيع متعلقة