«السادات» والدستور

بدأ «السادات» عصره بإصدار دستور مصر الدائم 1971. وهو الدستور الذى دعا إلى صياغته بعد ما أطلق عليه ثورة التصحيح (15 مايو 1971) والتى تخلص فيها من كل منافسيه السياسيين من بقايا عصر جمال عبدالناصر. نصَّ الدستور عند صدوره على أن تكون الرئاسة لمدتين (ست سنوات للمدة الواحدة) لا يصح التجديد للرئيس بعدها. كان «السادات» رحمه الله يردد فى خطاباته السياسية أنه لن يبقى فى الحكم لحظة واحدة بعد انتهاء المدتين، وأنه سوف يسلم الراية بعد ذلك لجيل أكتوبر. مرت السنوات الست الأولى من حكمه وحقق الرجل فيها العديد من الإنجازات، أبرزها الانتصار فى حرب أكتوبر المجيدة، وقبل انتهاء مدته الثانية تعالت الأصوات المطالبة بتعديل المادة التى تقيد الرئاسة بمدتين وطالبوا بتعديلها.

أساليب الساسة والإعلاميين فى مصر لا تتغير، فمثلما كانوا يهللون ويبررون لاستمرار الرئيس «عبدالناصر» فى الحكم مدى الحياة، دون تدبير أو تفكير فيما يمكن أن يؤول إليه المشهد إذا رحل فجأة، اعتمدوا على الأسلوب ذاته عند طرح مسألة تعديل دستور 1971 لفتح مدد الرئاسة والسماح للسادات بالحكم مدى الحياة. فخرج مجموعة من الإعلاميين والساسة مهللين بالفكرة، ثم تلقفها مجلس الشعب حينذاك، وتقدم مجموعة من أعضائه بطلب لتعديل بعض مواد الدستور. والناظر إلى خريطة التعديلات التى طرحت حينذاك سيلاحظ أنها استهدفت «مراضية الجميع»، التعديل الذى جعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع كان يغازل «الإسلاميين» الذين شكلوا فى ذلك الوقت الكتلة الأكبر للمعارضة، والتعديل الخاص باستحداث مجلس الشورى، أو مجلس «العائلة المصرية» كما كان يحلو للسادات وصفه، كان يغازل النخبة ويوسع أدوارها ويمنحها فرصاً جديدة للاستفادة، أما التعديل الخاص بمدد الرئاسة فكان يعمل فى خدمة الرئيس. وتم المراد ووافق الشعب على تعديل الدستور عام 1980.

وقتها كان يتردد كلام على ألسنة النخبة يتحدث عن أن الدستور ليس نصوصاً مقدسة، وأن قائد الحرب وصانع السلام جدير بأن يستمر فى الحكم ويقود سفينة البلاد حتى يصل بها إلى بر الأمان. نصوص الدستور ليست مقدسة، هذا أمر لا خلاف عليه، فليس بعد الكتب السماوية مقدس، وليس بعد الخالق العظيم مقدس، لكن هذا أمر وصياغة الدستور لخدمة أهداف أو أشخاص بعيداً عن المجموع أمر آخر. لقد تمكن المتحلقون حول «السادات» من تعديل الدستور، وبرروا ذلك بالدفاع عن استمراريته فى الحكم، لكن تداعيات المشهد أثبتت أنهم هم الذين استفادوا، بعد أن ذهب السادات رحمه الله. وظل الشعب حينها يعانى من حكم «مبارك» -المحمى بالدستور- لمدة 30 عاماً كاملة، ووصل الأمر بالأخير إلى حد تعديل الدستور من جديد عام 2005 ليمرر عملية توريث الحكم إلى نجله، وهو المخطط الذى أحبطته ثورة 25 يناير 2011.

«السادات» كان رجلاً حكيماً، لكن فاته أن يراجع وقتها بعض التجارب العالمية حديثة العهد والتى فضل فيها قادة كبار وعظام ترك الحكم، وهم فى قمة عطائهم، عملاً بسنن الحياة وقواعد السياسة الرشيدة. كذلك تصرف «تشرشل» فى بريطانيا، وفعل شارل ديجول فى فرنسا، قناعة منهما بحقيقة أن الشعوب هى الحقيقة الوحيدة الباقية، وما عداها إلى زوال.