مي زيادة وجبران.. "الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام"

كتب: أروا الشوربجي

مي زيادة وجبران.. "الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام"

مي زيادة وجبران.. "الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام"

كانت الوصل بينه وبين وطنه، منذ أن أرسلت له بريدها الأول، وحديثها عن روايته "الأجنحة المتكسرة"، ومقالته التي أعجبتها، في خطابات رسمية محافظة على الإطار الأدبي، وتحولت إلى صديقته وحبيبته الملهمة، أما هي عشقته فأصبحت أسيرة لكلماته 12 عامًا دون لقاء.

أحبت الأديبة مي زيادة، كاتبها المفضل جبران خليل جبران، الذي عاش في نيويورك، فكانت تهرب من عاطفتها تجاهه في رسائلها التي اتسمت بالحذر، حتى أرسل لها: "أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية"، فكانت تنقطع شهورا عن مراسلته، ليدفعه ذلك للتساؤل عن هذا الانقطاع.

كل رسالة، حملت معها إحساس جديد، تناغم العلاقة الروحية بينهما من صداقة، إلى عشق روحي، انتظرته مي طوال الـ12 عاما، ليصرح لها بعواطفه، دعته للعودة إلى مصر قائلة: "تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك.. تعال يا صديقي، تعال فالحياة قصيرة وسهرة على النيل توازي عمراً حافلاً بالمجد والثروة والحب".

إلا أن الحقيقة الباطنة وراء الرسائل هي أن لا أحد منهما كان يسعى إلى لقاء الآخر، فكانت مي تزور ألمانيا وإيطاليا ولا تذهب إلى نيويورك، وتدعو جبران لزيارتها في أوروبا ولا يفعل هو، وكأنهما تعمدا عدم اللقاء، ربما خافا من اللقاء الذي قد يفسد هذا الحب "الروحي والصوفي".

وحسب ما ذكرته الكاتبة "رندا سقف الحيط في كتابها "مي زيادة التي أحبها جبران"، ربما كان للمهجر أثر في نفس جبران فكان يعيش في عالم تحررت نساؤه من التقاليد، أما مي تعيش مجتمع أكثر تحفظا، فخافت على حريتها من الزواج، ربما تمنى جبران أن تتحرر مي من عقدها النفسية وشكوكها، فلم تلتفت إلى عُشاقها في صالونها الأدبي، حتى تجازوت الـ35، فاستجمعت شجاعتها وصارحته بعواطفها، وقالت له إن الورق هو الذي منحها الجرأة، وأنه لو كان يشاركها العيش في بلدها لما جرؤت على ذلك!.

"جبران، ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه؟ الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً من هذا الكلام، ولأختفيت زمناً طويلاً فما أدعك تراني إلَّا بعد أن تنسى".

فلم يأتها طلبه بالزواج، بل كان رد جبران باردًا، فقال: "الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لديَّ وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي، الله يعلم ذلك وقلبك يعلم"، وعاشت مي بلا أمل في حبهما أكثر من المراسلات.

عادت مي لمراسلة حبيبها الوحيد مرة أخرى، بعد أن تدهورت صحته، حتي توفى عام 1931، فاحتلها الحزن، وأصيبت بانهيار عصبي، وأعدت نفسها أرملة، تبع ذلك تدهور في صحتها، وأرسلت إلى قريب لها في بيروت، الدكتور جوزيف زياده رسالة مؤثرة وصفت الآمها وتردّي صحتها.

عادت إلى موطنها الأصلي في لبنان، وأخذت معها برسائل جبران معها، وصورة لجبران كتبت بخطها عليها "وهذه مصيبتي منذ أعوام"، وقضت ثلاث سنوات في مصحة نفسية، بعد أن أودعوها هناك أبناء عموميتها  طمعًا في ميراثها، ثم عادت للقاهرة مرة أخرى وأنزوت في منزلها، في شارع "علوي" أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون القديم، ثم نقلت لمستشفى المعادي وتوفيت في 1941.

 جمعت رسائل جبران لمي في كتاب الشعلة الزرقاء، أما رسائلها له فقد ضاعت بعد وفاته، ولم يبقى منها إلا القليل، وهذه بعض الرسائل التي سافرت بين القاهرة ونيويورك:

- من مي إلى جبران:

القاهرة 15 يناير 1924

جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب، أن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب، ينمّي الحب في أعماقهم قوه ديناميكية رهيبة، قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم، لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر.  ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقه له بالعاطفة.  يفضلون أي غربه، وأي شقاء (وهل من شقاء وغربه في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.

ما معنى هذا الذي اكتبه؟ اني لا أعرف ماذا أعني به! ولكني أعرف انك "محبوبي"، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟  لا أدري. الحمدلله اني اكتبه على ورق ولا أتلفّظ به، لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني الا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها احياناً، لأني بها حرة كل هذه الحرية.  قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى. فإني أثق بك، وأصدق بالبداهة كل ما تقول! وسواء كنت مخطئه فان قلبي يسير اليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.

غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال الأشكال والألوان، حصحصت نجمه لامعه واحده هي الزهرة، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم ان الظلام يخلف الشفق، وان النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيره قبل أن ترى الذي تحبه.  فتتسرب اليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي القلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد : جبران !

 

- من جبران إلى مي

نيويورك 26 فبراير 1924

نحن اليوم رهن عاصفة ثلجية جليلة مهيبة، وأنت تعلمين يا ماري أنا أحب جميع العواصف وخاصة الثلجية، أحب الثلج، أحب بياضه، وأحب هبوطه، وأحب سكوته العميق. وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهول حتى يتساقط مرفرفاً، ثم يتلألأ بنور الشمس، ثم يذوب ويسير أغنيته المنخفضة. أحب الثلج وأحب النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الاستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع. ما ألطف من قال:

يا مي عيدك يوم

وأنت عيد الزمان

انظري يا محبوبتي العذبة إلى قدس أقداس الحياة، عندما بلغت هذه الكلمة ((رفيقة)) ارتعش قلبي في صدري، فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين! وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.

تقولين لي أنك تخافين الحب. لماذا تخفين يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟

أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كلَ شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.

لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة. اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب، ولقد ولدت هذه الرغائب عندما ولدت. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرين طليقين نحو قمة جبالنا؟

والآن قربي جبهتك. قربي جبهتك الحلوة – والله يباركك ويحرسك يا رفيقة قلبي الحبيبة.

 

- من مي إلى جبران

 11 مارس 1925

صديقي جبران

لقد توزع في المساء بريد أوروبا وأمريكيا , وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع , وقد فشل أملي بأن تصلني فيه كلمة منك . نعم إني تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديسة حنة الجميل، ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل.

لا أريد أن تكتب إلي إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا , ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته ! .. أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل , حتى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح , فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه.

ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا , وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة، ولتقوك إذا كنت عاكفا على عمل ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا.

 

- (رسالة اعتراف مي لجبران بحبها له)

لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي، لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة، ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.

 

 

 

 


مواضيع متعلقة