حوار| حسين حمودة يسبح مع "الوطن" في "تفاصيل نجيب محفوظ"

كتب: ماريان سعيد

حوار| حسين حمودة يسبح مع "الوطن" في "تفاصيل نجيب محفوظ"

حوار| حسين حمودة يسبح مع "الوطن" في "تفاصيل نجيب محفوظ"

{long_qoute_1}

لم يمنعه السن أو المرض من التواصل مع الوسط الثقافي، ظل محافظا على عاداته حتى أقعده الموت، بين لقاء المثقفين من كل صوب وحدب، وبين العناية بالأشخاص، كان يقضي نجيب أسبوعه، على يمينه زكي سالم يقرأ الجرائد بعد ضعف بصره، وعلى يساره جمال الغيطاني يلقمه الكلمات بعد ضعف سمعه، وفي يوم الإثنين من كل أسبوع، كان موعده مع الدكتور حسين حمودة الناقد الأدبي، كان يذهب إليه في شقته المتواضعة بكورنيش النيل في العجوزة، في تمام السادسة مساء، في رحلة أسبوعية يصحبه خلالها في لقاء أدبي.

"الوطن" حاورت حمودة في الذكرى الـ11 لوفاة "الأستاذ"، يقول حمودة إنه كان محظوظا بلقاء محفوظ مرة كل أسبوع، يجلس إلى جانبه في طريق الذهاب والعودة، يتحدثان مرات ويصمتان قليلا، في لحظة يتأمل فيها الأستاذ شيئا مما يدور حوله.

ما أولى انطباعاتك عن نجيب محفوظ ؟

أول انطباعاتي عنه هي آخر انطباعاتي، منذ لقائي الأول به شهدت نبله وابتسامته وقدرته على الحوار، وهدوءه وحسه الإنساني الرفيع وميله للضحك وقدرته على السخرية من الألم، وظلت هذه السمات جزءا أساسيا ثابتا في كل لقاءاتنا عبر نحو 12 عاما، ولقاؤنا قبل الأخير كان بالمستشفى، بعد إصابته الأخيرة، وهو المستشفى ذاته الذي عولج به، قبل سنوات بعيدة، من إصابته البالغة عند محاولة اغتياله، إصابته الجديدة كانت بسبب أنه استيقظ من النوم ليلا، وذهب إلى الحمّام فتعثر وسقط وشجّت رأسه، عرفت بالخبر في وقت متأخر من الليل فكنت أول من يزوره في الصباح.

عندما رآني أدخل من باب الحجرة صاح مبتسمًا: "شفت اللي حصل لي؟"، كان صوته ضاحكا، وملامحه ضاحكة أيضا، وكأننا نستكمل سلسلة نكاتنا في لقائنا السابق، أو كأن أحدا آخر غيره هو الذي وقع وشجّت رأسه، أو كأنه يخبرني بطرفة جديدة سمعها اليوم، لا علاقة لها بما حدث له، ظل نجيب الإنسان هو نفسه دائما، بحضوره الجميل المبتسم رغم الألم.

{long_qoute_2}

- ماذا الذي دفعك لعمل أول قراءة نقدية في أعمال نجيب محفوظ؟

أول قراءة نقدية كانت بحثا عن روايته "الحرافيش"، كتبته في السنة التمهيدية للماجستير، ضاعت قبل نشرها، كنت أملك نسخة وحيدة، أعطيتها لصديقة إيطالية كانت تكتب دراسة عنه، وسافرت بها، ونسيتها لفترة، وفقدنا الاتصال، كتبت عن بعض أعماله فيما بعد، ومن ذلك كتاب عن علاقة الزمن والمكان في رواياته نشرته بعنوان "في غياب الحديقة"، واعتبر هذا الكتاب أول دراسة شاملة بالنسبة لي طبعا، عن أعماله التي ستظل دائما بغناها وبقدرتها على البث المتجدد، تكتنز داخلها تلك "الغواية" الجاذبة التي تستثير العديد، والمزيد، من محاولات الفهم والتفسير، محاولة تستكمل أخرى، ومحاولة بعد أخرى.

- كيف ترى شخصية نجيب محفوظ من خلال "علاقته بالآخر" حتى لمن حاول اغتياله؟

نجيب محفوظ هو أكثر من عرفت احتراما لقيمة الحوار، وإيمانا بقيمة التعدد، وتمسكا بقيم التسامح والمحبة، وقدرة على أن يضع نفسه دائما موضع الطرف الآخر الذي يتحاور معه، وهو من هذه الوجهة رأى أن الشبان الذين حاولوا اغتياله كانوا ضحايا، نحن نعرف طبعا أنهم لم يقرأوا عبارة واحدة من أي عمل من أعماله، هم كانوا منقادين بطاعة عمياء، لمن وجّهوهم في هذه الوجهة الدموية الغاشمة، واستغلوا جهلهم وغيرتهم على دينهم حتى ولو بشكل خاطئ، لذلك وصفهم نجيب محفوظ بهذا الوصف.

- علاقة التزام محفوظ العملي بشخصيته كروائي؟

نجيب محفوظ كما يعرف كثيرون، نموذجا نادرا للكاتب صاحب المشروع الكبير الذي أخلص له طوال حياته، كتب ما كتب من أعمال بفضل موهبته الكبيرة طبعا، لكن أيضا بفضل التزامه وعمله الدائم والدائب والمنظم جدا، ووصل هذا الالتزام إلى حدود لا يمكن تصديقها.

ارتبط هذا الالتزام بكل نواحي حياته وصحته ومرضه وتعامله مع الزمن وطبعا بالقراءة والمتابعة، تحدث لنا مرة عن "برنامج القراءة" الذي وضعه لنفسه في أول شبابه، وظل حريصا على تنفيذه طوال حياته، حتى فقد قدرته على القراءة بسبب ضعف البصر، وهذا البرنامج يعني أن يقرأ أمهات الكتب في فروع المعرفة والثقافة والأدب، تحدث بحسرة عن أنه كانت هناك بعض الأعمال التي تمنّى أن يعيد قراءتها والاستمتاع بها مرة أخرى، لكنه لم يستطع أن يفعل ذلك، لأنه "لا يملك هذا الترف" ولأنه لو فعل سيكون هذا على حساب أعمال أخرى لم يقرأها بعد. الحقيقة أن نجيب محفوظ مثال نادر على الالتزام الصارم الدقيق، وساعده هذا مساعدة كبرى في تقديم كل ما قدم من إبداع عبر مسيرة طويلة ومتجددة.{left_qoute_1}

- نظرية "موت المؤلف" في كتابات نجيب محفوظ؟

ارتبطت نظرية موت المؤلف عند نجيب محفوظ، باجتهادات نقدية حاولت أن تركز على "النص الأدبي" ذاته، بمعزل عن سياقه وعن مؤلفه، وهذه الاجتهادات لم تصمد طويلا، لأنها كانت متعسفة في تصورها هذا، وفيما يخص نجيب محفوظ، فأتصور أنه حاضرأ في كل أعماله لكن دون إقحام، هو حاضر برؤيته وباختياراته لعوالمه وشخصياته وبصياغاته الفنية، إلى آخره، ورغم أن الرحلة الطويلة التي قطعها مرت بانتقالات كبيرة واضحة، بين أعماله الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الشهور الأخيرة التي سبقت وفاته في السنوات الأولى من هذه الألفية، رغم هذا، فهناك في كل عمل من أعماله ما يشير بطريقة أو بأخرى، إلى أن هذا العمل ينتسب لنجيب محفوظ هو باختصار، حاضر في كل أعماله على تنوعها الفني وعلى تباين الاهتمامات فيها وعلى التعدد في عوالمها، وعلى الانتقالات الفنية التي انتقلتها.

- شاركنا قصص إنسانية عن نجيب محفوظ.

لقاؤنا المتجدد، طيلة سنوات لقائنا، كان كلّ يوم اثنين. كنت أذهب إليه حيث شقته المتواضعة بكورنيش النيل بالعجوزة، أرنّ جرس الباب في السادسة تمامًا، ويكون جاهزا متأهبا تماما أيضا، يفتح لي الباب بملابسه الكاملة، وأتابط ذراعه إلى سيارة أحد الأصدقاء التي تنتظر، ونقطع الرحلة من حي "العجوزة" إلى قاعة صغيرة مغلقة بأحد الفنادق القريبة من مطار القاهرة، حيث كان ينتظرنا الأصدقاء، 4 أو 5، وأحيانا يزيد عددنا عن ذلك، وكنا نسلك طريقا واحدا في الذهاب والعودة، وكما كنت محظوظا بأن أصطحب الأستاذ، في أغلب مرات لقائنا، من بيته إلى مكان لقاء جلستنا، كنت محظوظا أيضا بالجلوس إلى جواره في طريق عودتنا.

{long_qoute_3}

طيلة طريق العودة، كان يحدّثني أو أحدّثه، أو نصمت قليلا في لحظات كان يتأمل فيها شيئا ممّا قلناه أو ممّا يدور حولنا. في إحدى المرات غيّرنا طريق عودتنا بسبب شدة الزحام، وبدأنا نسلك طريق شارع الأزهر. عندما نبّهت الأستاذ نجيب إلى ذلك اعتدل متحمسًا في جلسته، وعندما وصلنا إلى حيّ الحسين ومسجده الذي كان على يميننا، شدّ رقبته ورفع رأسه وصوّب بصره نحو المسجد والحي، ومع حركة السيارة كان يدير رأسه للوراء كي يحتفظ بالمشهد لأطول وقت ممكن. وخلال هذا الوقت القصير، لكن لفترة أطول بعده، ظلّ وجهه محتفظا بملامح طفل مشرقة بفرحة كبيرة، كاملة وحقيقية، وكأنه عاد بالكامل إلى عالمه الأوّل الذي ابتعد عنه.{left_qoute_2}

- كيف ستحتفل مطبوعة نجيب محفوظ بذكراه؟

دورية نجيب محفوظ لم تصدر هذا العام للأسف الشديد، بسبب تعقيدات مالية حالت دون دفع المكافآت الرمزية للكتاب والكاتبات الذين يكتبون فيها، والذين لم يحصلوا حتى الآن على هذه المكافآت، وأنا أصبحت محرجا في طلب مقالات، رغم أن كثير من الكتاب مستعدون للكتابة "متطوعين" في الدورية، وعلى أي حال أتمنى حلّ المشكلة، وحل مشكلة "متحف نجيب محفوظ" الذي تأجل التجهيز له، وبالتالي افتتاحه لسنوات طويلة.

 

 


مواضيع متعلقة