«البخارى» مجدد السنة النبوية وأول جامع لصحيحها

كتب: عبدالوهاب عيسى

«البخارى» مجدد السنة النبوية وأول جامع لصحيحها

«البخارى» مجدد السنة النبوية وأول جامع لصحيحها

أدت الفتن التى شهدتها الأمة الإسلامية فى وقت مبكر من تاريخها والاقتتال الأهلى الذى أعقب حادثة مقتل الخليفة عثمان بن عفان إلى تسلل العديد من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة على النبى للسنة النبوية، فقد كان كل فريق يحاول إثبات نظرته الدينية بحديث نبوى، فأُدخلت السنة النبوية عنوة ساحة التناحر المذهبى، وانتشر وضع واختلاق الأحاديث المكذوبة على الرسول من أجل تأييد كل فريق لرأيه أو ذماً فى مذهب الآخر، واشتهرت بعض البلاد بوضع الأحاديث مثل العراق، التى سميت «دار الضرب»، كما يقول «الذهبى» فى «المنتقى من منهاج السنة»، حيث تُضرب فيها الأحاديث كما تُضرب الدراهم، مما دعا الإمام مالك إلى أن يقول: «نزّلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب: لا تصدقوهم ولا تكذبوهم». وكان ابن شهاب الزهرى يقول: «يخرج الحديث من عندنا شبراً فيعود لنا من العراق ذراعاً»، وهو ما دعا الصحابة والتابعين لمقاومة تلك الظاهرة والتصدى لها، وبدأ الاهتمام بالبحث عن سند الأحاديث، وقد قال ابن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قيل لهم سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ منهم وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ منهم».

{long_qoute_1}

وقد تعددت جهود جمع السنة النبوية وصيانتها من الوضاعين والكذابين، ووُجد العديد من المصنفات مثل مصنفات على بن المدينى والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، ولكن يبقى للبخارى السبق المطلق فى جمع صحيح السنة، لذا تُوج البخارى أمير المحدثين، ولُقب بأمير المؤمنين فى الحديث، وقد سُمى كتابه «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه»، وهو الاسم المشهور لما بات يُعرف بين الناس على مدار التاريخ الإسلامى بـ«صحيح البخارى».

{long_qoute_2}

وذكر البخارى أن سبب تأليفه للكتاب ما سمعه من أستاذه إسحاق بن إبراهيم الحنظلى المعروف بـ«ابن راهوية»، قال: كنا عند إسحاق بن راهوية فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله، قال: «فوقع ذلك فى قلبى فأخذت فى جمع الصحيح»، وبعدها وقعت رؤيا للبخارى قوّت رغبته فى جمع صحيح أحاديث النبى، يقول: «رأيت النبى صلى الله عليه وسلم وكأنى واقف بين يديه وبيدى مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبّرين فقال لى: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذى حملنى على إخراج الجامع الصحيح». وقد استقبل علماء الأمة جميعاً صحيح البخارى بقبول تام وإجماع على إمامة الرجل وفضله وعلمه، قال الذهبى: «وأما جامع البخارى الصحيح، فأجلُّ كتب الإسلام، وأفضلها بعد كتاب الله تعالى» وقال النووى: «أول مصنّف فى الصحيح المجرّد، صحيح البخارى، ثم صحيح مسلم. وهما أصح الكتب بعد القرآن. والبخارى أصحّهما، وأكثرهما فوائد. وقيل: مسلم أصح، والصواب الأول، وقد اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان، البخارى ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول». وقال إمام الحرمين الجوينى: «لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما فى الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبى لما ألزمته الطلاق، لإجماع علماء المسلمين على صحته»، وقال ابن خلدون فى مقدمة تاريخه فى علوم الحديث عن منهج البخارى: «وجاء محمد بن إسماعيل البخارى إمام المحدثين فى عصره وخرّج أحاديث السنة على أبوابها فى سنده الصحيح بجميع الطرق التى للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه».

لقى صحيح البخارى عناية فائقة من العلماء لأهميته، فقام على شرحه العديد من العلماء، وبلغت شروحاته 143 كتاباً. قال عبدالكريم بن عبدالله الخضير: «أحصيتُ من شروحه أكثر من ثمانين شرحاً، والذى فاتنى من ذلك أضعاف، والعلم عند الله سبحانه وتعالى». وقد جمع صاحب «إتحاف القارى بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخارى» عدد العلماء الذين اعتنوا بصحيح البخارى فبلغ عددهم 370، ويُعد شرح فتح البارى لابن حجر من أهم الشروح وأكملها، وقد وصفه الشوكانى بقوله: «لا هجرة بعد الفتح».

يحكى الإمام البخارى عن تصنيفه لصحيحه أنه أتمه فى 16 عاماً، ويقول: صنفته ثلاث مرات، وما وضعت فى كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك واستخرت الله تعالى، وصليت ركعتين وتيقنت صحته، وأخرجت هذا الكتاب -يعنى الصحيح- من زهاء ستمائة ألف حديث، وجعلت حجة بينى وبين الله فقد صنّفته بالمسجد الحرام». قال الحافظ بن حجر: «الجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه ابتدأ تصنيفه وبدأ فى ترتيبه وتبويبه فى المسجد الحرام». ولما صنف البخارى كتابه (الصحيح) عرضه على ابن المدينى، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث، قال العقيلى: والقول فيها قول البخارى، وهى صحيحة. وكان الإمام البخارى رحمه الله يعقد مجالس علمية لإملاء الحديث وكتابة «الصحيح»، وقد ذكر الفربرى أنه قد سمع منه -يعنى البخارى- تسعين ألف رجل.

وكان شرط البخارى فى صحيحه أن يُخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة سفراً وحضراً، وأنه قد يُخرج أحياناً ما يعتمده عن أعيان الطبقة التى تلى هذه فى الإتقان والملازمة لمن رووا عنه فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة، قال ابن الجوزى: مما تركه البخارى الرواية عن حماد بن سلمة مع علمه بثقته لأنه قيل إنه كان له ربيب يُدخل فى حديثه ما ليس منه، وترك الرواية عن سهيل بن أبى صالح لأنه قد تُكلم فى سماعه من أبيه، وقيل صحيفة.

عاش الإمام محمد بن إسماعيل البخارى فى القرن الثالث الهجرى، وتوجه إلى طلب العلم منذ نعومة أظفاره، وظهر ذكاؤه وبراعته فى وقت مبكر، فحفظ القرآن وهو صبى، ثم استوفى حفظ الحديث من شيوخه فى مدينة بخارى حيث ولد، ثم نظر فى كتب الرأى، وحين أتم ست عشرة سنة رحل فى طلب الحديث إلى جميع محدثى الأمصار، يُروى عنه أنه أخرج أحاديث جامعه الصحيح من بين ستمائة ألف حديث كان يحفظها، وعددها 7275 حديثاً، وبدون الأحاديث المكررة أربعة آلاف كما قال ابن الصلاح والنووى.

وحاز البخارى شهرة واسعة فى زمانه، وكانت له مكانته العلمية، ورغم ذلك لم يمنع ذلك عنه محنته مع المتشددين، والتى بدأت فى عام 250هـ، حين دخل مدينة نيسابور وكان أهلها قد أعدوا له استقبالاً عظيماً لم يكن له مثيل، ما دعا البخارى للبقاء فى المدينة. يروى الذهبى فى سير أعلام النبلاء: «حسده بعض من كان فى ذلك الوقت من مشايخ نيسابور، فقال أصحاب الحديث: إن البخارى يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه فى المجلس. فلما حضر الناس مجلس البخارى، قام إليه رجل، فقال: ما تقول فى اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخارى ولم يجبه. فقال الرجل: يا أبا عبدالله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه. ثم قال فى الثالثة، فالتفت إليه البخارى، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة. فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه. وقعد البخارى فى منزله».

حاول البخارى جاهداً أن يدافع عن نفسه، لكن أحداً لم يسمع بعد أن تلقف الدعوى للشغب ضد البخارى إمام نيسابور المحدث الحنبلى محمد بن يحيى الذهلى، الذى كان فى هذا الوقت أقوى من الأمير والخليفة فى إقليم خراسان كله، وكان قد تضرر من وجود البخارى، فقد أظهر الخلل فى مجلسه، وقلل أعداد طلابه، فاستغل الذهلى الموقف فتكلم فى البخارى وشنّع عليه، وزاد من هجومه على البخارى، وقال: لا يساكننى هذا الرجل (يعنى البخارى) فى البلد، وحينها أخذ الجهال والمتعصبون يتعرضون للبخارى فى الطريق يؤذونه، ما أجبر البخارى فى النهاية أن يخرج من البلد.

خرج الإمام البخارى قاصداً بلدته التى ولد ونشأ فيها قبل رحلته لطلب العلم «بخارى»، وقد تكرر المشهد، واستُقبل استقبالاً هائلاً لم يُشهد له مثيل، نُثر فيه على البخارى الدنانير والدراهم والسكر، وبقى الإمام فيها أياماً فى هناء إلى أن كتب محمد بن يحيى الذهلى إلى أمير بخارى: «إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة»، وقرأ الأمير كتابه على أهل بخارى، وأمر البخارى بالخروج من بلدته الأم، فخرج البخارى طريداً شريداً، هائماً على وجهه.

خرج البخارى من بلدته وحزن الدنيا وكربها قد اجتمعا عليه، واتجه إلى أقرباء له فى قرية «خرتنك» على مقربة من سمرقند. يروى الذهبى عن أحد مرافقيه: «فسمعته فى ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت علىّ الأرض بما رحبت، فاقبضنى إليك، فما تم الشهر حتى مات».


مواضيع متعلقة