فى يناير من العام 2014، تمت الموافقة على التعديلات الدستورية بأغلبية كبيرة؛ وهى التعديلات التى عبّرت بقدر من الأمانة عن تطلعات المصريين لبناء نظام سياسى رشيد، فى أعقاب انتفاضتى يناير ويونيو.
يمثل دستور 2014 حالة سياسية متقدمة، تعكس قدراً ملائماً من الموازنة بين السلطات، وتتيح الظروف المناسبة لحياة سياسية نشطة وفعالة، فى إطار احترام حقوق الإنسان، وفى القلب منها الحق فى اختيار الممثلين السياسيين، والقادة، ومحاسبتهم، ومراقبة أدائهم، فضلاً عن صيانة حرية الرأى والتعبير.
بعد أكثر من عامين من إقرار تلك التعديلات، لا يبدو أن النسق السياسى على الأرض أخلص فى ترجمتها على نحو أمين، كما لا يبدو أن بوسعنا الحفاظ على بعض ما جاء فى تلك التعديلات من مكاسب، خصوصاً تلك التى تتعلق بالفصل بين السلطات، وحق المراجعة والمراقبة المكفول لبعضها إزاء البعض، وللجمهور، إزاءها جميعاً.
لا يمكن أن نتغاضى عن بعض التقديرات التى ترى عيوباً فى دستور 2014، وتدعو إلى مراجعة بعض بنوده، لكن فى المقابل يصعب جداً الاستسلام للدعوات التى ترى ضرورة تغيير هذا الدستور، أو مواد رئيسية فيه، بالنظر إلى أننا لم نطبقه على نحو فعال وأمين بعد.
ثمة الكثير من القوانين المكملة للدستور لم يتم إنجازها، وبعض القوانين التى تم إقرارها جاء متناقضاً مع روحه وإرادته بشكل واضح، والأهم من ذلك أن معظم الممارسات السياسية المرتبطة بهذا الدستور لم تنضج على نحو كافٍ، ولم تبرأ من أعراض ما قبل 2014، وظلت وفية، للأسف الشديد، لتقاليد الممارسة السياسية الشمولية كما عرفتها البلاد على مدى أكثر من ستة عقود.
بعد نحو 14 شهراً من الآن سنكون على موعد مع انتخابات رئاسية، لترجمة الاستحقاق الخاص بموقع رئيس الجمهورية، وهو استحقاق أراد الدستور أن يكون متفقاً مع طبيعة النظام السياسى التعددى المنفتح الديمقراطى، الذى أراده واضعوه، منطلقين من زخم الانتفاضتين، ومتطلعين إلى دولة حديثة، على نسق الديمقراطية الغربية.
فى نهاية العام الماضى وفى خلال العام الحالى، شهد العالم تجربتين انتخابيتين مهمتين؛ إحداهما فى غرب الأطلنطى، حيث تم انتخاب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وثانيتهما فى شرقه، حيث يتم انتخاب رئيس للجمهورية الفرنسية.
لقد ثار الكثير من الجدل بخصوص الاستحقاقين الانتخابيين الأمريكى والفرنسى، فثمة من شكك فى نزاهة الظروف الحاكمة للعملية الانتخابية، أو عاب على الجمهور اتخاذه وجهة تصويتية معينة، لكن أبرز ما يمكن أن نستخلصه من التجربتين أن التنافس بين الرؤى كان حاضراً، وأن البدائل كانت متوافرة، وأن الفرص كانت متاحة للجميع ومتكافئة فى آن.
لا يمكن أن تتم عملية انتخابية ناجحة من دون توافر موارد كافية؛ وتلك الموارد لا تقتصر فقط على نزاهة اللجنة المشرفة على الانتخابات، أو دقة وأمانة عملية التصويت والفرز، لكنها موارد تتسع لتشمل كل عناصر السياق السياسى الحاكم للعملية الانتخابية.
نحن نعرف الآن أن الأمريكيين كانوا يختارون بين بديلين رئيسين؛ أحدهما وصفه معظمنا بالشعبوية والديماجوجية والانفلات والإفراط اليمينى، وثانيهما رأى معظمنا أنه مؤسساتى ودولتى، وأكثر براجماتية وإخلاصاً للنسق القائم فى السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، وحرصاً على إدامته.
وفى الانتخابات الفرنسية كان اليمين بدرجاته حاضراً، كما ظهر الوسط بميراثه المعتدل، واليسار فى صوره الممتدة من الاشتراكية المعتدلة إلى الراديكالية المفرطة.
وقد أفرزت الجولة الانتخابية الأولى مرشحين أساسيين، يختار بينهما الفرنسيون، حيث تتفوق حظوظ تيار الاعتدال على حظوظ اليمين المتطرف.
نستخلص من هذين الاستحقاقين الانتخابيين أن الانتخابات لا يمكن أن تجرى من دون بدائل سياسية، تعكس أنساقاً مختلفة من فهم المشكلات العامة، وحلولاً متباينة للتعاطى معها.
نستخلص أيضاً أن السياق الذى تجرى فيه العملية الانتخابية يجب أن يؤمّن أكبر درجة ممكنة من الحرية للأطراف السياسية لكى تطور برامجها، وتتصل بالجمهور، وتعرض نفسها عليه، وتروج لحججها وذرائعها.
تعكس تلك الطريقة حيوية النظام السياسى، وقدرته على طرح البدائل، كما تعكس التعددية الواجبة لمقاربة المشكلات الوطنية، والنزاهة فى إتاحة الفرص للمتنافسين، وتجعل من الشعب المرجعية الأخيرة والوحيدة لحسم الخيارات، ومن ثم سيكون الجمهور متقبلاً للنتائج أياً كانت، ومتحملاً مسئولية اختياره.
يقودنا هذا إلى ما قاله الرئيس السيسى أثناء مؤتمر الشباب الأخير، الذى انعقد فى محافظة الإسماعيلية، حين أقسم على أنه «لن يقبل أن يظل فى منصبه ثانية واحدة إذا كان للمصريين رأى آخر»، ومردفاً: «فليُوَلّ الله من يصلح».
يتسق ما قاله الرئيس مع روح دستور 2014 من جهة، ومع ما أصبحنا نعرفه ونقدره للتجارب الانتخابية الغربية، من حرصها على احترام حرية الجمهور فى التصويت، واختيار من تريد أن تحمله المسئولية، قبل أن تتحمل هى نفسها المسئولية عن اختيارها من جهة أخرى.
لكن تلك اللحظة التى تحدث عنها الرئيس، وهى لحظة الاصطفاف فى طوابير الانتخاب للإدلاء بالأصوات، ليست كل شىء فى العملية الانتخابية، ولا تضمن وحدها نجاعة تلك العملية ونزاهتها.
للوصول إلى تلك اللحظة، يجب أن تقوم الدولة، وبقية الأطر المجتمعية، بجهود كبيرة حتى تجعل لتلك اللحظة معنى، وحتى تثمر العملية الانتخابية، وتقود الأمة إلى الأمام.
هل لدينا حالة حزبية نشطة وفعالة، يمكن أن تفرز بدائل سياسية، وبرامج متعددة يختار منها الجمهور؟
هل يعكس البرلمان الوطنى تباينات الحالة السياسية فى مصر، ويقوم بدوره المفترض فى مراقبة السلطة التنفيذية، والتشريع، ويحترم الفصل بين السلطات؟
هل يتمتع الإعلام بالحد الأدنى من الحرية، والتنوع، والتعدد، واحترام المعايير المهنية، التى من دونها لا يمكن أن تتوازن حظوظ المتنافسين فى أى عملية انتخابية؟
هل تلعب السلطة التنفيذية دورها فى سياق العملية الانتخابية بأمانة وتجرد، أم تُسخّر نفسها لخدمة الحكم القائم؟
هل تجرى العملية التشريعية، فى إطار إصدار القوانين المكملة للدستور، والمتعلقة بالعمليات الانتخابية وسواها، بشكل رشيد، ومتسق مع الاستحقاقات الدستورية، ومنسجم مع تطلعات الجمهور؟
هل يملك أى فصيل سياسى، أو سياسى فرد، الفرص الكافية، والبيئة المناسبة، لكى يطور برنامجه، ويطرح نفسه على الجمهور، ويروج لانتخابه، من دون تدخل أو مناوأة؟
هل يمكن أن تجرى الانتخابات، وتنجح فى إدراك مراميها، فى ظل حالة استثنائية مثل حالة الطوارئ، التى يمكن أن تمتد، لتظل قائمة فى وقت إقامة الانتخابات؟
هل بإمكاننا إقامة انتخابات، تتحلى بالرشد والنزاهة، وتفرز مخرجات جيدة، فى ظل مواجهة التحدى الإرهابى، الذى يضغط على أعصاب الجماهير، ويشوش خياراتها؟
تلك كلها أسئلة يجب أن نطرحها على الإطار السياسى، والسلطة التشريعية، والإعلام، والجمهور، قبل أن نشرع فى استحضار الأمل.
إذا أردنا عملية انتخابية تعكس قدراً من الرشد والنزاهة، وتطور حالتنا السياسية، وتنقلنا إلى الأمام؛ علينا أن نجيب عن تلك الأسئلة، وأن نزيل ما قد يعوق نجاعة الانتخابات بقدر الإمكان، وفى مقدمته الانغلاق والأحادية والتوتر العمومى.