مشاهدات على نهضة الصين.. «غابت الديمقراطية وحضرت التنمية»

مشاهدات على نهضة الصين.. «غابت الديمقراطية وحضرت التنمية»
- أداء صلاة الجمعة
- أسامة المجدوب
- أعقاب السجائر
- أمن مطار
- أوبرا عايدة
- اقتصاد السوق
- الانفتاح الاقتصادى
- البنك المركزى الصينى
- «السيسى»
- آثار
- أداء صلاة الجمعة
- أسامة المجدوب
- أعقاب السجائر
- أمن مطار
- أوبرا عايدة
- اقتصاد السوق
- الانفتاح الاقتصادى
- البنك المركزى الصينى
- «السيسى»
- آثار
وكأنك هبطت من «كبسولة فضاء» على سطح كوكب آخر غير الأرض، إحساس طغى فور الخروج مع الوفد الإعلامى المصرى من مطار جوانزو جنوب الصين، إلى شوارع المدينة الساحلية، التى يبدو أنها خبأت لى كثيراً من المفاجآت.
أولى هذه المفاجآت.. كانت جماعية عند خروجنا من أبواب مطار جوانزو الدولى، فلم يكن فى انتظار الوفد الإعلامى المصرى أحد من جانب وزارة الثقافة المصرية التى دعتنا لتغطية فعاليات ختام العام الثقافى المصرى الصينى 2016، وفوجئنا بأن موظفة من وزارة الثقافة الصينية هى التى تنتظرنا ومعها طالبة صينية تدرس اللغة العربية لتأخذنا الموظفة والطالبة بالأوتوبيس إلى فندق الإقامة بوسط المدينة قريباً من نهر اللؤلؤ.
هنا مدينة نهر اللؤلؤ، أحد الأنهار المشهورة فى عموم الصين، لكنه بالطبع ليس الوحيد، فالصين تضم بين أحشائها قرابة 10 آلاف نهر، تروى عطش نحو 1.4 مليار مواطن صينى، وعشرات الملايين من الأفدنة الصالحة للزراعة التى تمتد باتساع مساحة جمهورية الصين الشعبية البالغة 9.6 مليون كيلومتر مربع، أى نحو 10 أضعاف مساحة مصر.
مصر كانت حاضرة معى فى كل خطوة.. عندما أمشى فى الشارع أتفحصه جيداً فلا أجد بروزاً لبالوعة صرف صحى، ولاأرى أثراً لمطب أو حفرة.. أذهلنى كم الأشجار المتراصة التى تخفى غابات شاسعة على جانبى طريق مطار جوانزو، التقطت لها صوراً قبل أن أركب الأوتوبيس الذى أقلنا إلى الفندق، قارن زملاء بين هذا الطريق ونظيره فى مصر شارع صلاح سالم الذى يقودك من وإلى مطار القاهرة.. المسألة ليست معضلة فقط تتوافر الإرادة.. فما أسهل التشجير والتجميل.. لكن أين أنت أيتها الإرادة؟
{long_qoute_1}
الإرادة هى مربط الفرس.. أحد كبار الصحفيين قال لى إنه زار العاصمة الصينية بكين منذ 17 عاماً، لم يكن فى بكين حينها سوى شارعين يصلحان للتنزه، أما بقية الشوارع فكانت تعانى القذارة فلا تملك إلا أن تسد أنفك، أبدى اندهاشه بما شاهده من طفرة كبرى فى مدينة جوانزو إحدى مدن الجنوب ذات العشرة ملايين نسمة، وليس العاصمة بكين أقصى الشمال. {left_qoute_1}
الشمال الصينى شديد البرودة وتصل درجة الحرارة فى هذه الأوقات إلى 8 تحت الصفر، قالها «يوان» أو نور طالب اللغة العربية، من يدرس العربية يسمى نفسه اسماً عربياً، جاء موفداً من العاصمة بكين لمرافقة وزير الثقافة حلمى النمنم، عندما سألته عن الطقس فى شمال البلاد، وقال لى أيضاً إن القطار الكهربائى فائق السرعة يقطع المسافة بين العاصمة بكين ومدينة جوانزو فى عشر ساعات، ثم بادر بلكنة عربية مترنحة: هل تعرف سرعة هذا القطار؟ قلت: 300 كيلومتر فى الساعة.. فابتسم ابتسامة صافية وقال: نعم هى كذلك، وهذا ببساطة يعنى أن المسافة لن تقل عن 2500 كيلومتر.
2500 كيلومتر قطعها المستشار التعليمى والثقافى المصرى الدكتور حسين إبراهيم من العاصمة بكين إلى جوانزو، وصل المستشار إلى فندق إقامتنا فى اليوم التالى لوصولنا، وكانت المفاجأة أنه أكد لنا أن وزارة الثقافة المصرية لم تبلغه بموعد وصول الوفد الإعلامى المصرى إلا قبل وصولنا بـ24ساعة فقط، وهو ما فسر غياب أو ضعف التنسيق بين الوزارة والسفارة، لدرجة أن مصدراً فى السفارة المصرية أكد أن السفير أسامة المجدوب حضر ختام العام الثقافى المصرى الصينى الذى احتضنته أوبرا جوانزو، بدعوة من وزارة الثقافة الصينية وليست المصرية.. إنه غياب التنسيق بين الوزير والسفير فى كل زيارة خارجية، مثلما يحدث بين الوزير والمحافظ فى الزيارات الداخلية.
السفير المجدوب حضر معنا العرض الختامى بدار أوبرا جوانزو، مقبلاً من بكين مساء الخميس الماضى، وخلال العرض ألقى الوزير «النمنم» رسالة تهنئة أرسلها الرئيس «السيسى» إلى نظيره الصينى بمناسبة انتهاء العام الثقافى بين البلدين، أشار فيها إلى تطلعه إلى الوصول بالعلاقات المصرية الصينية إلى مرحلة «الاستراتيجية الشاملة»، ورد عليها الرئيس «بنج» برسالة ألقاها وزير ثقافته أعلن فيها سعادته بنجاح أول عام ثقافى يقام بين الصين ودولة عربية، مؤكداً أن الصين تقف مع مصر يداً بيد، بما فيه مصالح الشعبين العريقين.
{long_qoute_2}
كان العرض الفنى رائعاً؛ مصر قدمت بمشاركة فنانين وراقصين صينيين «أنشودة النصر من أوبرا عايدة».. ولوحة غنائية راقصة تحية للشهداء وأخرى عن «الزار»، وباليه كسارة البندق تظهر الأهرامات فى خلفيته، واكتفت فرقة التنورة المصرية بعرض خارج دار أوبرا جوانزو، فيما قدمت الصين عدة استعراضات موسيقية بديعة، وفقرة أكروبات رائعة حازت على أكبر قدر من تصفيق وإعجاب الجمهور الذى اكتظت به مدرجات مسرح الأوبرا، وبعد خروجنا من دار الأوبرا وقبل أن نهم بالصعود إلى الأوتوبيس ليعيدنا إلى الفندق، ظهر السفير «المجدوب» ليصافح أعضاء الوفد الصحفى، كنت قرأت قبل السفر إلى الصين أنه تسلم منصبه فى ديسمبر الماضى خلفاً للسفير مجدى عامر، فقلت له: سيادة السفير عندى ملحوظة أود أن أنقلها لك.. الصين لا تعترف نهائياً بالجنيه المصرى، فقد حاولت بنفسى أن أبدل اليوان الصينى بمبلغ من الجنيهات فى بنك الصين أو البنوك وشركات الصرافة الخاصة دون جدوى، وقلت للسفير أيضاً الغريب أن مصر أعلنت منذ شهرين التوقيع على اتفاق مع الصين تودع بموجبه 2.7مليار يوان فى البنك المركزى المصرى، كما تودع مصر فى المقابل 2.7مليار جنيه فى البنك المركزى الصينى.. أبدى السفير اندهاشه ثم قال: كويس إنك قلت لى سأناقش معهم هذا الأمر، فأكملت قائلاً: حضرتك تعرف أن هناك مصريين يأتون بكثرة إلى الصين، فكيف لا تعترف الصين بالجنيه فى ظل هذه العلاقات الجيدة بين البلدين؟
الجنيه.. «هذا الكائن الذى أكل عليه التعويم وشرب»، ما زال صالحاً للدعاية للسياحة المصرية مع وسائل أخرى، منها التبادل الثقافى خاصة فى دول جنوب وشرق آسيا، ومنها الصين، بعد الطفرة الاقتصادية التى انعكست على مستوى دخل الصينيين، تخيل لو أن 100 شخص فقط من بين كل مليون صينى زاروا مصر شهرياً لمشاهدة آثارها الفرعونية ومعالمها السياحية المتنوعة، سيكون لديك نحو 1.7 مليون سائح صينى سنوياً، لو أنفق كل منهم 100 دولار فقط سيكون المجموع 170 مليون دولار، ومثلها من اليابان وكوريا، بخلاف السياح المقبلين من أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا.. لكن كيف يصبح الجنيه بصور أبوالهول والأهرامات ومعابد الأقصر وأبوسمبل والكرنك وفيلة، والجامع الأزهر والقلاع التاريخية وغيرها من المعالم التى يحملها على وجهيه، سفيراً للسياحة المصرية، وبنوك هذه الدول لا تعترف به وبالتالى لا يراه سوى المصريين فقط!
المصريون فى أقصى بقاع الأرض.. هكذا لن تعدم رؤية مصريين أينما ذهبت حول العالم من أقصى شماله وجنوبه، ومن أدنى شرقه وغربه.. فاليوم الجمعة آخر أيام الزيارة.. كتبت مبكراً على جروب الوفد أنى سأصلى الجمعة فى أحد مساجد جوانزو فحضر معى الأستاذ فهمى عنبة رئيس تحرير «الجمهورية» والزميل محمد السيد رئيس تحرير «المصرى اليوم»، ركبنا التاكسى من أمام الفندق إلى أحد أحياء جوانزو.. هنا «المسجد النموذجى على مستوى البلاد» هكذا قرأت لافتة نحاسية عُلقت على واجهة المبنى الذى يضم جمعية الثقافة الإسلامية ومسجداً يسع لنحو 2000 مصلٍ من الرجال والنساء، حوائطه مكسوة بالحجر الجرانيتى، وأسقفه من قراميد تعلوها قبة، وله مئذنة عالية بنهاية مخروطية، قال لنا الصينى محمد السوى، الذى يتحدث العامية المصرية كأحد أبناء شبرا، إن عمر هذه المئذنة نحو 2000 عام، كانت قبل وصول الإسلام إلى الصين برج مراقبة بحرية، ثم حولته السلطات الصينية إلى مئذنة.
كنت أقف بجوار خالد درويش المصرى، الذى يمتلك شركة توريدات ويقيم فى جوانزو منذ 10 سنوات، وهو أستاذ الصينى محمد السوى الذى علمه اللغة العربية ويسافر معه إلى مصر ويرتاد باستمرار مقاهى خان الخليلى وسيدنا الحسين، أكد لى درويش أنك من السهل جداً أن تنشئ شركة فى الصين بدون تعقيدات روتينية، وقال: لا مقارنة بينهم وبيننا فى تسهيلات الاستثمار.
رغم أن المسجد له منبر خشبى مثل منابر المساجد فى مصر والدول العربية، إلا أن الإمام اختار غرفة ملحقة بالمسجد وجلس على كرسى ليلقى خطبته، وكانت المفاجأة أنها باللغة الصينية، وامتدت نحو 25 دقيقة لم ينطق فيها حرفاً عربياً سوى آيتين من القرآن الكريم، أنهى الواعظ خطبته الصينية، فقام الناس ليصلوا السنة، ليعود الإمام ويلقى خطبة أخرى بلغة عربية «مكسرة» لم تستغرق سوى 5 دقائق دعا بعدها للمسلمين ثم أقام الصلاة.
عرفت بعد الصلاة أن هذا الإمام الذى خطب فينا عضو فى الحزب الشيوعى الحاكم، وهو الحزب الأوحد فى البلاد، ويشترط أن يكون الواعظ عضواً فيه، وعرفت أن مضمون الخطبة لم يخرج عن تقديم نصائح إيمانية عامة للمصلين.
بعد ساعات من أداء صلاة الجمعة التى لم تبدأ قبل الواحدة ظهراً، سنستقل طائرة مصر للطيران «البوينج 777- 300» نفسها، التى أقلتنا من مطار القاهرة، لكن رحلة العودة ستكون 12ساعة طيران مباشر، بينما كانت فى رحلة الذهاب 9 ساعات فقط، هكذا أعلن قائد الطائرة فى الإذاعة الداخلية، لكنه عاد ليعلن تأخر إقلاع الطائرة 30 دقيقة بسبب تكدس سماء مطار جوانزو بالطائرات ليكون الإقلاع 11.30 مساء الجمعة، لم نتمكن من رؤية مطار جوانزو «على حقيقته» سوى فى رحلة العودة، مطار ضخم فخم يعج بآلاف المسافرين من جميع بقاع الأرض، نظافته خيالية، إجراءات التفتيش دقيقة لكنها سريعة، أسرع من نظيرتها فى مصر وأدق، فى الذهاب كنت أحمل ولاعة فلم يصادرها أحد، لكن نفس الولاعة صادرها منى فرد أمن مطار جوانزو بعد مرورى من بوابة التفتيش النهائية.
عودة إلى مصر.. سألت شاباً صينياً يبيع ويركب إكسسوارات الموبايل ويتكلم الإنجليزية عن مصر فلم يعرفها.. قلت له إن مصر دولة ذات حضارة قديمة مثل الصين، لديها الأهرامات وأبوالهول ومعابد ما زالت باقية منذ 7 آلاف عام.. فاعتذر مبتسماً: لا أعرف.
كان هذا البائع فى شارع تجارى مزدحم بالناس والمحال بوسط جوانزو، وفيه يقع «مول بكين»، رغم أعداد البشر والسيارات اللانهائية.. الكل يمر بسهولة ويسر.. المارة على الرصيف أو عندما يعبرون الشارع، وكذلك السيارات معظمها سيارات فارهة لماركات يابانية وألمانية وقليل منها صنع فى الصين فى غياب واضح لكل ما هو أمريكى أو راكبى الدراجات وهم نسبة كبيرة من الصينيين.. لا مكان لعسكرى مرور.. الإشارات كلها إلكترونية.. الأوتوبيسات كلها مكيفة الهواء، التاكسى ينتشر بعدة ألوان، عرفت من لبيبة دانج دارسة اللغة العربية أن لكل شركة نقل خاصة لوناً يميز التاكسى التابع لها، فهناك الأخضر والرصاصى والأحمر والأصفر وغيرها وجميعها تعمل بالعداد، إلا القليل يعمل بالاتفاق على الأجرة بين السائق والراكب، وتبدأ بنديرة عداد التاكسى بـ10 يوان ما يعادل 27 جنيهاً مصرياً.
الشوارع الجميلة هذه والتى تعج بالحياة، تبدو شبه خاوية مع دقات العاشرة مساء، موعد غلق المحال، الكل يسارع إلى النوم، وفى السادسة صباحاً تبدأ جحافل البشر فى الزحف المقدس إلى أعمالهم، لتملأ الشوارع مرة أخرى بطوابير المارة والسيارات فى انتظام بديع لا تستطيع أن تقاوم إعجابك به.. حقاً إنها ثقافة، سألت «لبيبة» عن مدى صحة انتشار أكل الصينيين لحوم القطط والكلاب والقوارض، فقالت لى بما معناه: «ده كان زمان أيام الفقر، فالناس هنا عندما كانوا فقراء أكلوا كل شىء، أما الآن فقليل جداً من يأكل هذه الحيوانات»، وإذا كانت الخضرة تخطف أنظار زائرى جوانزو، فإن مستوى نظافة الشوارع يسلب عقولهم، فالشوارع كلها نظيفة، أخذت أتفحصها حتى فى الأماكن الخلفية داخل المناطق الأكثر شعبية، لن تجد عقب سيجارة لدرجة أنى ظننت أن التدخين ممنوع، لكنى اكتشفت أن نسبة المدخنين الصينيين عالية، لكن ثقافة الانضباط والالتزام بالحفاظ على نظافة الشوارع تسرى فى دمائهم، وأيضاً الدولة تساعدهم على ذلك بتوفير سلال القمامة بكثافة على جانبى أى شارع.. اكتشفت أيضاً أن السر فى عدم إلقاء أعقاب السجائر فى الشوارع أن كل صندوق قمامة له جانبان من البلاستيك للفضلات، وبينهما طفاية معدنية للسجائر.. هنا يتكامل سلوك المواطن مع سلوك حكومته فيتم الحفاظ على النظافة العامة والمساحات الخضراء فتقل نسبة التلوث وبالتالى يقل معدلات الإصابة بالأمراض فيزيد الإنتاج، لأن العقل السليم فى الجسم السليم.. وهكذا فإذا امتلكت هذه الحكومة الرؤية والإرادة معاً تحققت النهضة سريعاً حتى ولو غابت الديمقراطية، فالصين لا تسمح بتداول السلطة فالحزب الشيوعى يمثل قوى الشعب العامل بمفرده، ويتخذ ما يشاء من قرارات، ولتعرف على سبيل المثال أن الصين تحظر على مواطنيها استخدام الإنترنت وبالتالى فيس بوك وتويتر وغيرهما، وتوفر لهم شبكة بديلة «إنترنت +» تضم نحو 660 مليون مستخدم، لكن الانفتاح الاقتصادى الذى بدأ عام 1979 والتحول التدريجى إلى اقتصاد السوق لعب دوراً فى تحسين معيشة الصينيين بشكل واضح، فالصينيون صحيح ليس لديهم «فيس بوك» لكن لديهم نهضة.. وهذه هى الحقيقة التى رأيناها فى جوانزو عاصمة مقاطعة جواندونج التى تبعد ساعتين بالقطار عن جزيرة هونج كونج الصينية الشهيرة وسط مياه المحيط الهادى وبحر الصين الجنوبى.