ظهرت كثير من الكتابات عن مفارقات وتناقضات الثورات العربية، فقد فاجأت تلك الثورات الثوار أنفسهم، فضلاً عن القوى الإقليمية والدولية، ولم تكن لها قيادة واضحة أو أيديولوجية أو حتى برنامج سياسى، كما أن أقل الأطراف مشاركة فى فعل الثورة هم الذين وصلوا للحكم سواء فى مصر أو تونس أو ليبيا، وينتمى هؤلاء إلى الإسلام السياسى، وقد سعوا للهيمنة وإقصاء شركاء الثورة وتهميشهم، خاصة الشباب والمرأة والأقليات الدينية والإثنية.
ومن المفارقات أن شعارات وأهداف الثورات العربية كانت فى البداية بعيدة عن الإسلام السياسى، إلا أنه جرى على نحو سريع وممنهج أسلمة تلك الثورات، وخلط الدين فى السياسة وتوظيفه لصالح التمكين وأسلمة الدولة والمجتمع. طبعاً هناك اختلاف فى السرعات بين إسلاميى تونس ومصر وليبيا، لكن يظل هذا التوجه العام يجمع الحكام الجدد فى الدول الثلاث، خاصة أنهم أبناء مدرسة واحدة هى «الإخوان المسلمون»، رغم اختلاف التجارب والظروف والخبرات.
التوجه العام للحكام الجدد ولحركة حماس المرتبطة أكثر بإخوان مصر، هو الهيمنة والتمكين ولا شىء سواهما، بغض النظر عن النتائج والأخطار المحدقة باقتصاديات الدولة ووحدتها الوطنية وأمنها القومى، لذلك يحرص الحكام الإسلامويون الجدد على حصار المعارضة وقمع الإعلام وتخويف الإعلاميين حتى يضمنوا الهيمنة الثقافية والإعلامية، وبالتالى التلاعب بآراء المواطنين وتزييف وعيهم، ومن ثم القدرة على تمرير دساتير وقوانين تضمن لهم الفوز فى الانتخابات، التى ينظرون إليها باعتبارها كل الممارسة الديمقراطية، فنتائج الصندوق من وجهة نظرهم هى الديمقراطية بمعزل عن احترام تعدد وتنوع الإعلام والفصل بين السلطات واحترام القضاء ودولة القانون.
من مفارقات السلوك السياسى للحكام الإسلامويين أن البقاء فى السلطة والاستئثار بها فرض ضرورة وغاية وليس مجرد وسيلة لإصلاح أحوال العباد والبلاد. ورغم النتائج السلبية لإدارتهم السياسية والمخاطر الناجمة فإنهم لا يعترفون بارتكاب أخطاء، ويبررون أخطاءهم فى ضوء نظرية المؤامرة، وبالتالى لا يبادرون إلى التعاون وإقامة شراكة مع كل القوى السياسية لإنقاذ الاقتصاد، وحل تركة المشكلات الثقيلة الموروثة عن سنوات من إهمال وفساد بن على والقذافى ومبارك، بل يتوهم الحكام الإسلامويون قدرتهم على حل تلك المشكلات منفردين، ما يعنى أن لديهم مفارقة شعورية وإدراكية للواقع من حولهم، أى أنهم لا يفكرون بطريقة منطقية وواقعية، بل يفكرون من خلال أوهام أيديولوجية وتماهٍ زائف مع الرسول الكريم وأصحابه، فضلاً عن نظرية المؤامرة، فالعالم كله يتآمر ضد أول حكم إسلامى فى المنطقة العربية. ويبدو أن التكوين الفكرى والتنظيمى لجماعة الإخوان والقائم على فكرة عزل العضو عن المجتمع البعيد عن الإسلام، وربطه بحياة الجماعة وأفرادها، إضافة لسنوات الملاحقة البوليسية قد أنتج هذه العزلة الإدراكية والشعورية والمصحوبة بأوهام وثقة مبالغ فيها عن الفوز والانتصار!!، ولا شك أن العزلة عن الواقع تغذيها ثقافة السمع والطاعة وآلية التفكير بالمؤامرة!!
وأتوقف عند التفكير بالمؤامرة وهى أحد تناقضات الثورات العربية، فقد انتشرت فكرة أن الثورات جزء من مؤامرة أمريكية إسرائيلية، رغم أن الشعوب العربية هى التى صنعتها، وقد فاجأت واشنطن وتل أبيب كما فاجأت تونس والقاهرة، التقط الحكام الإسلامويون تلك الآلية -جزء أصيل من تكوينهم الفكرى- وروجوا لها، وبرروا فشلهم فى إدارة الدولة نتيجة كفاءتهم المحدودة وتسرعهم فى تنفيذ مخطط التمكين والأخونة، وذلك رغم أن وصولهم للحكم كان عبر تفاهمات أمريكية لضمان مصالح أمريكا فى المنطقة، ومن بين هذه التفاهمات الحفاظ على الاستقرار السياسى من خلال تجريب أنظمة حكم إسلامية معتدلة والأهم سنية، حتى يمكن توظيفها لحصار إيران وتوريط المنطقة فى صراع سنى - شيعى تستفيد منه إسرائيل وواشنطن، لأنه كفيل بإنهاك قوى إيران والدول العربية، التى ستكون أكثر احتياجاً لشراء السلاح والدعم السياسى الأمريكى.
ويبدو أن الإخوان قبلوا الصفقة على مضض، وبدأوا فى التنفيذ، بدليل خطاب مرسى فى إيران، وموقفه من الثورة السورية، أما السلفيون فإنهم وبحسن نية يعملون باندفاع شديد، وبدون فهم للصراع الدولى والإقليمى، ويضغطون على الرئيس وحكومته لخوض معارك وهمية ضد الخطر الشيعى.