الضرائب من «روث الحيوانات» إلى «راديو السيارة».. مصلحة «حرق دم» المصريين

كتب: رحاب لؤى

الضرائب من «روث الحيوانات» إلى «راديو السيارة».. مصلحة «حرق دم» المصريين

الضرائب من «روث الحيوانات» إلى «راديو السيارة».. مصلحة «حرق دم» المصريين

كراهية تاريخية للضرائب فى مصر، المسألة ليست مجرد أموال تسدد إلى خزانة الدولة من أجل تحسين الأوضاع والنهوض بالبلاد كما هو الهدف من الضرائب منذ ظهورها بأبسط أشكالها، يتحول الأمر إلى ثقل لا يلبث أن يتحول إلى عجز شديد يضرب الجيوب والقلوب، يصل الأمر فى بعض الأحيان إلى القضاء على عائلات بالكامل لفرط الضغط المادى والمعنوى الذى تمثله على أرباب الأسر.

يزخر التاريخ بعشرات الأسماء لضرائب يمكن وصفها بالغريبة داخل القطر المصرى وخارجه، وصل الأمر حد الأساطير كتلك التى تقول إنه كان ثمة ضريبة باسم «الأسنان» مفروضة على رعايا الدولة العثمانية من أجل علاج أسنان كبار رجال الدولة، نظراً لإصابة الكثير منهم بتسوس الأسنان نتيجة عاداتهم الغذائية الخاطئة، الأمر الذى أعقبه فرض الإمبراطورية العثمانية ضريبة على العامة لتحمل تكاليف العلاج.

{long_qoute_1}

فى هذه الناحية كان العالم كله فى «كفة» والمصريون فى «كفة» أخرى، حيث ذاقوا على مدار تاريخهم صنوفاً مختلفة من الضرائب التى دفعوها بكل الألوان والأشكال، الباحثة زينب على محمد محروس، المعيدة بقسم الآثار المصرية فى جامعة القاهرة، أعدت رسالتها للماجستير كاملة عن الضرائب بمصر القديمة حتى نهاية الدولة الحديثة، تؤكد أن المصريين دفعوا الضرائب فى عهد القدماء، ليس من أموالهم فقط، ولكن أيضاً من ماشيتهم، حيث شهدوا ضريبة «الماشية»، و«السخرة» فى حكايات تشهد بها برديات «ويلبور» و«اللوفر» و«جريفت»، فضلاً عن عشرات النصوص.. «قام بدفع الضرائب كل من الخاصة وصغار المستخدمين والتجار والعسكريون، وتم إنفاق الضرائب على أوجه مثل الرحلات الملكية، والذهاب إلى حضور احتفالات عيد «أوبت»، فضلاً عن القردة كيكى وبقية القردة، حيث تم الصرف عليهم، فضلاً عن بقية الضرائب التى تم الاستفادة منها لصالح القرابين ولصالح المعابد والشعائر، فلم يُعفَ من الضرائب سوى المعابد فى الدولة القديمة ومقدمى الخدمات الإجبارية فى الدولتين الوسطى والحديثة».

قصص أليمة تثبتها عشرات المراجع والدوريات التى تحدثت عن صنوف «الذل» و«السخرة» التى نالها المصريون فى العهد المصرى القديم، قدمها إبراهيم نجيب ميخائيل فى كتابه «مصر والشرق الأدنى القديم» يقول الكتاب: «كان الفلاح العاصى أو المتمرد على دفع الضريبة يناله ضرب قوى حتى إن بعض الفنانين رسموا عملية تحصيل الضرائب من الفلاحين على الجدران، وفى اقتصاد المقايضة كانت أبسط وسيلة لانتزاع الضرائب عن طريق الاستيلاء على جزء من المنتجات والبضائع أو الممتلكات».

{long_qoute_2}

معلومات صادمة تقدمها الأدبيات، لكنها ليست الأغرب فى التاريخ المصرى، الدكتور جمال كمال محمود، مؤلف كتاب «الفلاح المصرى فى العصر العثمانى» يتحدث عن مجموعة من الضرائب المرعبة التى ذاق عنها المصريون صنوف الذل، يقول: «ضريبة الميرى وهى الضريبة الشرعية الأولى التى فُرضت لصالح الدولة العثمانية، كذلك ضريبة المضاف وهى الضريبة التى تضاف على ضريبة الميرى، مجرد ضريبة جزافية يقررها الملتزمون والمساعدون لهم، ثم ظهر المزيد من الضرائب كالفائض، والبرانى التى تُفرض على الوقود وهو فى ذلك الوقت روث الحيوانات، كذلك ضريبة قراء الأسنان وهى ضريبة تفرض على ما يأكله الفلاح، وضريبة جوشاف، وضريبة خدمة العسكر، وقد عجز الفلاحون عن الدفع مع كثرة هذه الضرائب، حيث كان الفلاح يعمل بالسخرة فى أرض الملتزم لسداد ما عليه. ولم يتحسن الحال فى عهد محمد على، بل ساءت أحواله أكثر، حتى إن محمد على استغل إيواء والى صيدا «عبدالله باشا» لعدد من الفلاحين المصريين الهاربين من السخرة والضرائب والخدمة العسكرية، ليجرد حملة عسكرية لتأديبه بقيادة ابنه».

«لقد أثقلت كل العهود كاهل المصريين بالضرائب الباهظة» يتحدث الدكتور أيمن فؤاد، رئيس الجمعية التاريخة المصرية، مشيراً إلى أن قطاعاً كبيراً من المصريين اعتاد النظر إلى الضرائب باعتبارها «سرقة» لأنه لا يوجد فى الشريعة الإسلامية ضرائب بخلاف الخراج والعشور والجزية وما يخرج من الأرض، وغيرها من الضرائب التى أقرها الدين دون أن يروها تطبق على أرض الواقع فى حياتهم.

ضرائب تراوحت فى فجاجتها بين الفداحة والغرابة لا تزال تؤرق المصريين وتقضّ مضاجعهم حتى اليوم، حيث يتوالى مزيد من الصنوف والأشكال التى تصيب المتابعين بمزيد من الحيرة والاستغراب والغضب أيضاً، فما بين حديث عن ضريبة قدرها 100 جنيه على كل «راديو سيارة» مروراً بفرض ضرائب إضافية على عقود الزواج والطلاق ورفع الضريبة على تذاكر السفر لتصل إلى 400 جنيه بدا أن هناك المزيد، فقاعات الأفراح حظيت بضريبة 25% وانتهى الأمر بقانون القيمة المضافة الذى ضرب الميزانيات داخل البيوت فى مقتل عقب سلسلة من ارتفاعات الأسعار التى وقف وراءها ارتفاع سعر الدولار وزيادة أسعار الأدوية.

{long_qoute_3}

لم يبدُ أن هذا كاف للمصريين الذين تفاجئهم القوانين القديمة من وقت لآخر، كما هو الحال مع الضريبة التى اكتشفوها عقب فوز الأبطال المصريين فى الأولمبياد، وتقضى بدفع 10% من إجمالى الجوائز التى يحصلون عليها، ولم يدّخر نواب البرلمان جهداً فى إشعال المزيد من الغضب عبر أحاديثهم عن ضرائب على التوك توك ومطالب برلمانية لفرض ضريبة تصاعدية على الرياضيين والإعلاميين والفنانين، وكذلك على المصريين العاملين بالخارج بدعوى أنهم «بيقبضوا كتير»!

«غليان» هو الوصف الأقرب للواقع، لا يبدو أن صانع القرار يشعر به، لكن طارق كعيب، الذى تجمع حياته الوصفين «مواطن» و«موظف بمصلحة الضرائب العقارية» ما يجعله يعانى الأمرّين، فهو بالنسبة لمعارفه مجرد واحد من هؤلاء «الجباة» الذين يأكلون قوت المصريين، وبالنسبة لنفسه مجرد مواطن «غلبان» يعانى مثل الملايين من الحال الصعب «إنتو الحرامية بتوع الدولة»، «إنتو اللى بتسرقوا من جيوب المواطنين»، «إنتو بتفرضوا علينا ضرايب وسايبين الأغنياء» قليل من كثير يسمعه الرجل بمجرد أن يقدم نفسه باعتباره واحداً من العاملين بالضرائب.

لم يعد «كعيب» يصمت كما كان الحال قديماً، مقدماً العذر، فقد بلغ السيل الزبى: «بردّ على طول وأقول له يا عم أنا الضرايب سارية عليا زى ما هى سارية عليكم، الفرق إنى كموظف الوحيد اللى بيدفع ضرايبه على داير مليم ومن المنبع، الناس اللى بتقول الموظفين مرتباتهم واكلة الميزانية، ما بيقولوش إن ضريبة كسب العمل بتمثل 14% من دخل الدولة يعنى الموظفين هم الفئة الوحيدة اللى ماينفعش تتهرب ولا عمرها قصّرت لحظة فى دفع الضريبة».

تأثر شديد نال عائلة «كعيب» عقب الزيادات الأخيرة: «قسمت الاحتياجات لقسمين، قسم ماينفعش أخفّض فيه زى دروس الأولاد، مقدرش ماديهمش دروس على الوضع الحالى للمدارس، وللأسف المدرسين زودوا فلوس الدروس، وأنا مرتبى واقف مابيزيدش بموجب قانون الخدمة المدنية، والعلاج طبعاً اللى بدفع له ما لا يقل عن 10% من مرتبى شهرياً، القسم التانى خاص بالأكل والهدوم والخروجات وده تم تخفيضه طبعاً، بدل ما أجيب بنطلونين بقيت أجيب بنطلون، وبدل كيلو لحمة بقى نص، مفيش مصيف، يعنى من الآخر الحكاية جت على صحتنا».

موظف الضرائب البالغ من العمر 52 عاماً لا يرى عدالة تُذكر فى الضرائب الحالية المفروضة على المصريين: «ضرايب عامية مابتفرقش بين غنى وفقير، الضريبة المفروض تكون عادلة والمواطن يشوف أثرها فى حياته، عشان الناس تلتزم ونوصل للمرحلة اللى الناس بره مصر وصلولها إن التهرب من الضرايب عار مش فهلوة وذكاء زى ما هو الحال هنا. ليه أكون مضطر أمشى الشهر بالعافية ولو حصل عندى ظرف أو حد تعب أوصل لمرحلة الديون والسلف، إحنا المصريين عمالين نشدها من هنا تخر من هنا، وده بسبب عجز الحكومة والدولة، مفيش رؤية لحل الأزمة غير إنهم يحطوا إيدهم فى جيوبنا، وإيه العائد علينا من ده كله؟.. صفر».

«كعيب» الذى يعمل كرئيس للنقابة المستقلة للعاملين بالضرائب العقارية لا ينفصل واقعه كمواطن عن التاريخ المتصل بالمشكلة: «طول عمر الضرائب من دم الناس، أمال الإقطاع جه منين؟، والمصريين اللى طول عمرهم عايشين على الأرض وبيزرعوها خسروا كل ما يملكون على مدار العهود بسبب الضرايب والسرقة اللى بتتم باسمها، ماكانش فيه ظابط ولا رابط، كل والى ياخد ما بداله والمصريين يدفعوا التمن، طول عمرها الضرايب عقاب والمواطن عمره ما بيشوف منها حاجة فى حياته».

يتذكر الدكتور إيهاب الدسوقى، رئيس قسم الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، أغرب ضريبة فى التاريخ المعاصر فى عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات: «كان بيفرض ضرايب على بعض أنواع الفواكه عشان مايدخّلهاش مصر، فى صورة تعريفة جمركية عالية، وأشهر الفواكه دى كان الموز لدرجة إنه كان بيحدد عدد الصوابع فى السباطة المفروض يكون كام كنوع من التعجيز».

معلومة طريفة تكشف عن أشكال مختلفة من استخدام الدولة لفكرة الضريبة، يقول أستاذ الاقتصاد: «الضريبة مصدر رئيسى للدخل عند الحكومات التى تتبع الاقتصاد الحر وتعتمد عليها وليس على عائد الاستثمارات، هذا النوع من الحكومات يتلخص وظيفته فى خلق مناخ للاستثمارات وجنى الضرائب من أجل تمهيد بنية أساسية وتوفير الأمن وتحقيق العدالة الاجتماعية فتُقتطع من الغنى لصالح الفقير وتصنع حالة من العدالة بالتقريب بين الطبقات حتى لا تكون هناك فجوة كبيرة بين الفقراء والأغنياء بهدف تدارك مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية».

شرح لفكرة «ما يجب أن يكون» يتعارض بشكل كبير مع الوضع على أرض الواقع بحسب الدسوقى: «نعم لدينا ضرائب، لكن نقطة استخدامها فى تحقيق العدالة الاجتماعية ضعيفة جداً، كما أننا لا نطبق الضرائب التصاعدية، والنتيجة مجتمع لا يؤمن بأهمية الضريبة ولا يشعر بضرورة تسديدها، وعليه نجد أن التهرب الضريبى فى مصر نسبته عالية جداً ما يؤثر على الحصيلة النهائية».. أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات أكد أن الضريبة ليست وسيلة تمويل وحسب ولكنها ذراع أيضاً للدولة تتحكم بها فى بعض السلع تحجم نشاطها أو تشجعه: «الضرائب الضخمة تفرض على سلع تريد الدولة تحجيمها ما يؤثر سلباً على معدل النشاط».. «الدسوقى» أشار إلى حالة من التوسع فى فرض الضرائب على الناس، يقول: «جزء من الذكاء فى فرض الضرائب هو تقبل الناس لها، لكن التوسع الكبير بهذا الشكل يدفع الناس إلى التهرب منها».


مواضيع متعلقة